حاضريَّة الدِّين في زَمن الحدَاثة الفائِضَة
محمود حيدر
مفكر وباحث في الفلسفة والإلهيات – رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة
مُهمَّة هذه الأملية مُعَايَنة التحوُّلات المعرفيَّة التي تشهدها المجتمعات الغربية المعاصِرة لجِهَة عَوْدَة سؤال الدِّين ليتخذ مَسَاره المستأنَف فيما سُمِّي بزمن الحداثة الفائضة (1). وما من رَيْب في أنَّ مُعاينة كهذه ترتِّب مُتَاخمة نظريَّات العلمنة في صِلتها بالدين والآثار المترتبة على ذلك سَحابة قرون من أزمنة الحداثة؛ فلقد ظَهَرت العلمنة كحاصل احتدام مَرِير مع المَسْألة الدينية. وتبعاً لهذه الحال، ما كان لينفسِح الضباب عن ماهية العلمانية، بمَنأى عن هذه المسألة. بل ثمَّة من يمضي إلى مطارح أبعد ليبيِّن أنَّ العلمنة الغربية وُلِدت من الرحم الحار للديانتين اليهودية والمسيحية؛ لهذا لم يستطَع نُظَّار العلمانية ومفكروها أن يُعربوا عن مُنجزهم المعرفي على نحو بيِّن، إلا ضِمن حكاية كان للدين فيها مكانة محورية.
يَفْتَرِض بحثنا في سِياق اشتغاله الى إشكاليَّة رُجوع الدِّيني إلى محراب الغرب، أنَّ العقل الذي ابتنتْ عليه الحداثة مُنجزاتها العُظمى ما عاد قادراً -وبأدواته المعرفية المألوفة- على مُواجهة عالم مُمتلئ بالخشية واللَّايقين. كذلك ما عادتْ العلمنة التي “قدَّست” مسالكها، ونعوتَها، وأسماءَها، بقادرة على مُوَاصلة مشرُوعها التاريخي إلا عَبر استئناف المناظرة مع النمو المتعاظم لسؤال الدين.
حَاصِل هذه الفرضية المركبة نُشوء مَطارح تفكير مُستحدثة لا تكتفي بنقد الأنوار على ما فِعل إيمانويل كانط، وإنَّما انصرفتْ إلى نقد جذري عميق لمُجمل الموروث الميتافيزيقي الذي قامتْ عليه الحَدَاثة منذ أفلاطون وإلى يَوْمنا هذا. حتى ليجُوز القول إنَّ اللحظة التي انعطف فيها العالم نحو القرن الحادي والعشرين هي لَحظة توفَّرت على تُربة خَصبة لاستنبات مُرَاجعات جذريَّة مع حَداثات فاضتْ عن حاجتها، وجاوزتْ شريعتها الأولى.
الدِّيني كحُضور أصِيل في الحَدَاثة
مرَّ تاريخٌ كاملٌ استحلَّت فيه عبارةُ “إزالة السحر عن العالم” (désenchantement) عقلَ الحداثة الغربية برُمته. كان الدين على وجه الحصر هو المقصود من العِبارة التي تحوَّلت مع تقادُم الزمن إلى ما يُشبه الأيقونة الأيديولوجية. وخلال قرون متواترة من اختبارات الحداثة، لم يُفَارِق الدين -بجناحيْه: اللاهوتي المؤسسي، أو الإيماني الفردي- التساؤل الذي يَسْري بخفر في حقول التفكير. وإذا كانتْ أيقونة “إزالة السِّحر” قد آلت إلى مخزن الذاكرة الغربية، فإنَّ آثارها وتداعياتها لا تزال مُحَايثة للفضاء النخبوي العربي الإسلامي عبر استظهارات شتى. تارة بالدَّعوة إلى الإصلاح الديني، وطوراً بفصل الدين عن الدولة، وثالثة عبر التنظير إلى العلمنة الشاملة والتحديث وتوطين التقنية.
سِوَى أنَّ مُنقلباً في عالم المفاهيم سيُقيم الجدل حول العلمنة والدين على مَنشأ آخر؛ فلم يكد القرن العشرون يطوي سجله المكتظَّ بالأفكار والأحداث والحروب الكبرى، حتى قَفَل الغرب عائداً إلى أسئلة بَدئية كان طَوَاها سِحر الحَداثة وضَجِيجها. من أظهر تلك الأسئلة، ما عكسته مناخات الجدل المستحدَث فِيما أَسْمُوه “رجوع الدينيّ” ليتبوَّأ مكانته في فضاءات التفكير الغربي. وعلى غالب التقدير، فقد بدا الكلام على حضور المسألة الدينية في ثقافة الغرب المثقلة بعَلمانيتها الحادة، قضية معرفية وحضارية تَحْظَى بعناية وازِنَة. لكنَّ هذا السؤال لم يُفَارق أرض الحداثة سَحابة القرون الخمسة من عُمْرِها المديد. كذلك لم يُغَادر الدينيُّ هواجس الغرب وتعقُّلاته، لا في حَداثته الأولى، ولا في أطواره ما بعد حداثية. كأنما قدرٌ قضى أن يظلّ الدين باعثَ الحراك في الفلسفة والفكر والثقافة والاجتماع، حتى لقد بَدَا أشبه بمِرآة صقيلةٍ يَظهر على صفحتها الملساء حُسنُ الحداثة المزعوم. فالدين -على ما يُبَيِّن فلاسفة التنويرـ لم يكُف عن كَونه وظيفة أبدية للروح الإنساني. لهذا؛ راحوا يُنبِّهون إلى ضرورة ألَّا تتنازل الفلسفة يوماً عن حقّها في بحث المشكلات الدينية الأساسية وحلِّها. هكذا سيَرى فيلسوف الدين الروسي نيقولا برديائيف، ثم يمضي ليبيِّن أن لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينيًّا (2). ولقد نال من كلامه هذا الكثير من النعوت المذمومة مِمن جايَلَهم من علماء الماركسية وفلاسفتها. لكنَّه رغم سَيْلِ الانتقادات التي انهمرتْ عليه، ظلَّ على قناعته بأن جهلاً مطبقاً ضرب العقل الأوروبي حيال الدين. كان برديائيف يدعو على الدوام إلى التبصُّر بالإيمان الديني بما هو حالة فوق تاريخية، ولا يستطيع العقل العلماني أن يقاربها بيُسر. بل إنه سيمضي في مطارح كثيرة من مُساجلاته إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد أعرب عن اعتقاده بأن الفلسفة الحديثة عموماً، والألمانية خصوصاً، هي أشد مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط؛ حيث نفذت المسيحية -برأيه- إلى ماهية الفكر نفسه ابتداءً من فجر عصور الحداثة.
لم تكُن التنظيرات التي استهدفتْ تظهير الدين كحاضر أصيل في التاريخ سوى أحد تعبيرات المَلْحَمة النقدية التي واجهتها الحداثة تِلْقَاء موقفها من الإيمان الديني. صحيح أنَّ العلمنة الحديثة لم تقدر على استئصال البُعد الروحاني للإنسان، لكنها تمكنت -نظير ذلك- من استنزاله إلى أدنى مَرَاتب الاهتمام الأخلاقي. وما ذاك إلا لشغفها بليبرالية المجتمع المفتوح، واستغراقها في تعظيم الذات الفردية، وسعيها للاستقلال المفرط عن أي معيارية أخلاقية تنظم الاجتماع البشري على مبدأ الرحمانية والعدل. أما النتيجة التي أدَّت إليها أفعال العلمنة، فكانت فقدان العقل دوره في تحكيم الجدالات الأخلاقية، وعدم قبول أي شيء معياري خارج التحكيم الشخصي. وهذه هي الحال التي يصفها الفيلسوف الكندي المعاصر تشارلز تايلور (3) بـ”أيديولوجية انشراح الذات” (épannouissement de soi) شديدة القوة في الثقافة الغربية الحديثة. وللبيان، فإنَّ هذه الأيديولوجية التي استمدَّت قوَّتها من عَصر الأنوار، وآمنت بمحورية الإنسان في الكون، سوف تتمدَّد في التاريخ لتصير الفردانية معها عقيدة صمَّاء لحداثة فالتة من عقالها.
فالفردانية (INDIVIDUALISME) في ثقافة الحداثة تعني -كما هو شائع عنها- إنكار أي مبدأ يعلو على قيم الفردية (individualite)؛ لذا فلن يعود مُستغرباً ذاك المشهد الذي تختزل فيه الحضارة الغربية في مجالاتها كلها، بالعناصر الإنسانية المحض. ولأن الفردانية امتداد للمفاهيم السابقة عليها، فهي أيضاً تدل في جوهرها على الشيء نفسه الذي كانت تدل عليه، كلمة “إنسانوية” (humanism) في عصر النهضة، وهو ما يسميه المفكر الفرنسي رينيه جينون بـ”وجهة النظر الدنيوية” التي أسَّست -برأيه- للانحطاط الراهن للغرب. يذهب غينون إلى أن الإنسانوية والفردانية نزعتان شكَّلتا محرك التطور الحصري للإمكانيات السفلى للإنسانية، والتي لا يتطلب توسعهما تدخل أي عنصر فوق بشري؛ لأنهما يتموضعان على الطرف النقيض لأي روحانية وأي عقلانية حقيقية. فإنها في مرتكزها الميتافيزيقي تنكر الحدس العقلي؛ كون هذا الأخير ملكة فوق فردية (supra-individuelle)، يُضاف إلى ما تقدم إنكارها مرتبة المعرفة التي هي المجال الخاص بهذا الحدس، أي الميتافيزيقا بمعناها الحقيقي. لذلك، فإن كل ما يقصده الفلاسفة المُحدَثون بهذه التسمية نفسها “للميتافيزيقا”، ليس بينه وبين الميتافيزيقا الحقيقية أي قاسم مشترك، بل هي مجرد بناءات عقلية أو فرضيات خيالية، وبالتالي، تصورات فردية محض، ويتعلق أغلبها، بكل بساطة، بالمجال الفيزيائي الطبيعي للحياة البشرية (4).
لم تلبث العلمانية -وهي على هذه الحال- حتى تحوَّلت إلى “لاهوت أرضي”، أو على الأبين أيديولوجيا تُلهِم الدولة والمجتمع والمؤسسات. من أجل هذا، لم تستطع مجتمعات الحداثة أن تجد ما يطمْئنها إلى علمنة تحوَّلت في قليل من الوقت إلى سُلطة لاهوتية قهرية تُصدِر أحكامها بلا هوادة. حتى إذا آنتْ ثورة النقد تهافت يقينها، وآل كل شيء لديها إلى حضرة الشك. حتى قال الذين اكتووا برمضاء الخيبة: “علمانية التنوير ماتت، الماركسية ماتت، وكذلك حركة الطبقة العاملة. أما المثقف فبات لا يشعر بأنه على ما يرام، أو أنه أوشك على الموت”. تبدو الصورة على أتمِّها حين تُنقد العلمنة من أهلها. ولسوف نجد أنَّ فلاسفة التنوير المستحدث هم أول من افتتح مغامرة النقد ونزع الغطاء عن مثالب الحداثة ومعاثرها.
فرويد سينبِّه إلى هذه العقدة وهو يستطلع اللوحة السيكيولوجية الأخلاقية للغرب إثر الحرب العالمية الأولى، ورأى أن “المسألة ليست في أننا سقطنا إلى أدنى المستويات (عبر قتل بعضنا البعض)، بل إننا لم نرتقِ إلى المستوى الذي كنا نظن”. من بعد ذلك، تمدَّد الزمن ليظهر عالم جيوسياسي ثقافي جديد أمام الملأ. تحت ظل هذا العالم الجديد ما عاد بمقدور التسمية القديمة للغرب أن تلبي تعريفه البَدْئي عن نفسه، فقد ذوى التنوير تحت سطوة التمدد الكولونيالي.. انتهى حادث الأنوار إلى حداثة مكتظة بالعيوب، غاب مع الحداثة الفائضة عن مرآة الفكر والقلب.
مارتن هايدغر سيَمْضِي إلى حيث لم يقدر عليه الأوَّلون من قبله. عنده الحداثة لم تُفلح في إنتاج ما يتجاوز ميتافيزيقا الإغريق، وأن اليونان مذ حدَّدوا الخطوط الأساسية لفهم الوجود، لم تتحقق خطوة جديدة من خارج الفضاء الذي ولجوه للمرة الأولى. وعلى غالب الظن، لم يكن هايدغر لينحو هذا النحو، لولا أن بلغ نقده للحداثة حدًّا بات معه على دراية بما انتهى إليه مشروعها من صدوع لا ينفع معها نقدٌ ذاتي، أو تبريرٌ أيديولوجي. سيذهب هايدغر أبعد من هذا ليحكم على ميتافيزيقا الحداثة بعدم قدرتها على إحداث تغيير مباشر لحالة العالم الراهنة. وهذا –برأيه- لا يصدق على الفلسفة فحسب، بل على كل المحاولات والتأملات الإنسانية؛ الأمر الذي حدا به في سنواته الأخيرة إلى القول: “إن الله وحده ما زال بإمكانه إنقاذنا”. ويضيف: “أعتقد أن الإمكانية الأولى الباقية للخلاص هي التحضير للجهوزية؛ أي التفكير من أجل ظهور الإله. فنحن ببساطة لا نمُوت مِيتات بلا معنى، لكننا عندما ننحدر فإننا ننحدر بسبب من غياب الإله” (5).
سَوْف ينطلق هايدغر ليتواجه مع السؤال الأكثر بداهة وحضوراً وبساطة، والأعمق غوراً في الآن عينه: “لماذا كان وجود الموجودات بدلاً من العدم؟”.. إنَّه سؤالُ الأسئلة كلها كما سمَّاه. وهو سؤال يمر عبر الفضاء اللاهوتي ليصل إلى جوهر الإيمان بالخلاص الإلهي.
من أجل ذلك، دَعَا إلى التهيُّؤ لتحصيل النشاط العقلي الكافي من أجل تحويل السؤال كله إلى نقطة الارتكاز التي ابتدأ بها، وهي الـ”لماذا”. تلك الكلمة الدهرية المسكونة بظمأٍ آدميٍّ إلى الحقيقة المتوازية خلف الانسحار بالحداثة وتقنياتها. رَاهَن هايدغر على كلمة “لماذا” لتؤدِّي مُهمَّة لا يقدر عليها أحدٌ سواها. إذ من خلال أداء هذه المهمة يتمُّ اكتشاف كيف أن هذا السؤال المميز يمتلك أساسه فيما يُسمّى”النقلة المفاجئة”. حين يتوغَّل المرء بعيداً في تفاصيل الأحكام المسبقة لحياته؛ سواء كانت حقيقية أو متخيَّلة.
مَا كان هايدغر، وهو ينقد الميتافيزيقيا الحديثة وينعتها بـ”نسيان الوجود”، بغافلٍ عمَّا اقترفته العلمنة حِيَال البُعد المتعالي في الكائن الإنساني. فإذا كانتْ مُهمَّة هايدغر الأولى مُجاوزة الميتافيزيقا بداعي انئخاذها بالموجود، وغفلتها عن الحقيقة الأصلية لوجوده؛ فمثل هذه المهمة لا تلبث حتى تتضاعف تحيُّراً، حين تعلم أنَّ تلك “الغافلة عن أصلها”؛ أي الحداثة المغمورة بعلمانيتها الصماء لمَّا تزل تحتل مساحة العالم وتقرر مصائر أهله. ذاك أنَّ نقد الميتافيزيقا الكلاسيكية والدعوة لمجاوزتها نحو المتسامي، كان يتمُّ بصَوت خفيض أمام ضوضاء التقنية وسيطرتها المطلقة. يُعلن عن نفسه عبر استشعاره للخطر. وهذا الإنسان هو نفسه الذي سيطلق عليه هايدغر اسم “الدازاين”، أو”الكائن الإنساني الباحث عن سر حضوره في العالم”. وهو ما حَاول هايدغر التفكير فيه تفكيراً خاصُّا عبر ما سمَّاه الإيرأيغنيس (Ereignis) أو “الانبثاق الكبير”.
في “الكينونة والزمان”، أشار هايدغر إلى الغفلة التامة عن الوجود، ولاحظ أنَّ الإنسان يغفل عن وُجوده لأنَّه ينظُر دائماً إلى الموجود. وللوصول إلى حقيقةِ الوجود، لا بد من الخُروج من الدَّائرة الموجودانية والتعالي عنها. إلا أنَّ هذا التعالي لا يبدو أنه يتحقق إلا على أساس الرَّهبة والحِيرة: في الرهبة يخرج الإنسان من الغفلة عن وجوده، وفي الحيرة يبدأ التفكُّر. وبيْن هاتين الحالتين تناظر وتشابه وامتداد، لكن الفارق بينهما أن العدم سبب الرهبة، والوجود أساس الحيرة. وبناءً عليه، فالرهبة وحدها التي تجعل الإنسان ينعتق من إسار الموجودات، ومتى تكشَّف لنا فقر الموجودات استيقظنا من غمِّ العدميّة، ثم لا نلبث حتى نقع مُجدداً في الحيرة، التي بفضلها وحدها؛ وبعد انكشاف العدم، ينطلق لساننا بالسؤال “لماذا” (6).
حتى لقد أوشك هايدغر، وهو يجوب ساحل الحضرة الحائرة، أن يتعرض للحادث العرفاني، بعدما أرهقته مشقة السؤال حول حقيقة الكينونة. لقد بدا كما لو أنه يستعد لسفر تعرُّفي لم يألفه من قبل. سفر هو أقرب إلى هجرة لا تقبل العودة إلى الوراء، وغايتها الوصول إلى فكر يتعدى الفقر الموصول بالماهيات الفانية. هو -على الأصح- فكرُ الفكر الذي جعله أرسطو فكراً خاصًّا بالله. فكر يقود إلى الأصل، إلى الشيء الذي هو محطُّ السؤال. رُبما هذا الذي حدَا به أن يعلن عام 1973 أنه مستمر في تعريف فكره بأنه “فينومينولوجيا ما لا يظهر”. أي الفكر الذي يحيل دائماً إلى عملية الظهور، وإلى الإنوِهاب التي يتلقاها الإنسان في الحضرة الإلهية. ولو أننا تأوَّلنا التعريف المنصرم، لتناهى إلينا صدى الحادث الانبثاقي الموعود الذي ينتظره هايدغر. في مفهوم “الإرأيغنيس” الذي سيوظفه هايدغر في انتقالاته المفارقة؛ ما يفصح عن دخوله في التحدِّي الأعظم: السفر بسؤال حقيقة الوجود ومعه إلى آخره، مع ما يرتب على ذلك من هُجران ما اقترفته ميتافيزيقا الكثرة من نسيانٍ وغفلةٍ وحجب. ربما توخَّى هايدغر من هذا المفهوم المنحوت ببراعة أن يقارب من خلاله الدفق الإلهي على الكائن، خاصة حين يكون هذا الكائن في ذروة انجذابه إلى الغيب. “الإرأيغنيس” -كما انتسجه هايدغر- هو الحادث السرِّي الخاطف الذي تُقبِلُ فيه الكينونة بطهارتها وقدسيتها على الإنسان، ولا غاية لها سوى الإنفاق بلا حساب (7).
ميشال فوكو سيمضِي في نقدياته إلى التساؤل عمَّا إذا كانت الحداثة لا تزال تشكل امتداداً لعصر الأنوار، أو أنها أحدثت قطيعة أو انحرافاً عن المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر. وبشيء من المرارة، والسخرية يضيف: “لا أعرف إن كنَّا سنُصبح راشدين ذات يوم.. أشياء كثيرة في تجربتنا تؤكِّد لنا أن حادث “الأنوار” لم يجعل منَّا راشدين، وأننا لم نصبح كذلك بعد” (8)… وما من ريب أن منشأ كلام فوكو مردُّه إلى استشعارٍ عميق للمآل الذي بلغته مسارات الحداثة، وبما يُنبئ عن تهافتٍ أخلاقي بيِّنٍ لقيم التنوير ومبادئه الكبرى.
نقد الحداثة العلمانية الملحدة
في أحقاب مُتأخرة، تطوَّرت الموجة النقدية لتطال قيم الحداثة ومعارفها على الجملة. من العلامات الفارقة التي ميَّزت حركة النقد، الكلام على أنَّ الثقافة العلمانية السائدة في الغرب تعرضت لهزّة حاسمة في “بنية المشاعر”، مما يعني تضاؤل الثقة بالعلمنة كنمط عيش، أو كمنظومة قادرة على التعامل الإيجابي مع نمو الظاهرة الدينية. لقد حدث ضربٌ من تحوّل درامي، ليس فقط في المزاج العام لدى إنسان الزمن العلماني، وإنما أيضاً وأساساً في طرق إيمانه ومناهج تفكيره، ناهيك عن أنماط نشاطه العام في السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلوك الفردي. أما في مقام التفكير الفلسفي، فجرت وقائع النقد على نحو شديد الوقع: إدانة عارمة للعقل المجرد، وكرهٍ عميق لأي مشروع يستهدف تحرير الإنسان. الماركسية والعلمانية الليبرالية -اللتان حملتا مشاريع بديلة للرأسمالية التقليدية- لم تنجُوَا من سوط النقد؛ فقد انبرى كثيرون من صنّاع الثقافة الغربية المعاصرة إلى النظر إليهما بوصفهما فلسفتين رجعيتين فقدتا رونقهما وعفا عليهما الزمن. ولا شك أن حكماً كهذا مردُّه إلى الأزمة الأخلاقية التي وَسَمت علمنة عصر التنوير، ولمَّا تنته تداعياتها وآثارها في زمن الحداثة الفائضة. فإذا كان صحيحاً أن العصر المشار إليه قد أتاح للإنسان تحرير ذاته من تقاليد العصور الوسطى، إلا أن إصرار علمانيِّيِه على إحلال “الذات الفردية محل المتعالي” سيقود إلى تناقض ذاتي؛ حيث تُرك العقل مُجرداً من الحقيقة الإلهية، ليتحول من ثمة إلى مجرد أداة للتصنيع وإدارة السوق، ومن دون هدف روحي أو أخلاقي. من هذه الزاوية على الوجه الأخص، لم يرَ جمع من فلاسفة ونقَّاد ما بعد الحداثة إلا أن علمانيةً بهذه الصفات، لا ترقى لتكون قيمة أخلاقية متسامية؛ ذاك على الرغم من أنها شكَّلت في وجه من وجوهها إحدى قيم العدالة لجهة دعوتها لحرية الاعتقاد ورعاية التنوُّع.
ومع الظهورات الأولى للحداثة الفائضة -ختام القرن العشرين، ومبتدأ القرن الحالي- سيأخذ النقاش حول الدين وحضوره في الزمن العالمي الجديد مُنفسحات غير متوقعة. ولقد كان من البيِّن أن توضع نظريات العلمنة وتجاربها التاريخية في فضاء النقد تلقاء الكلام على الدين. ذلك ما يشير إليه المفكر الأمريكي من أصل إسباني خوسيه كازانوفا، حين يفتتح كتابه المعروف “الأديان العامة في العالم الحديث”، بالتساؤل المثير عمَّا إذا كان ثمة من يؤمن بعد بأسطورة العلمنة؟!.. كما يلفت كازانوفا إلى أن السجالات التي يشهدها علم اجتماع الدين في الآونة الأخيرة تدل على أن تساؤله -سالف الذكر- هو الأكثر ملاءمة لمباشرة أي نقاش يجري حالياً حول نظرية العلمنة. ولكن، رغم إصرار بعض من يسميهم بـ”المؤمنين القدامى” على أن نظرية العلمنة تتمتع حتى الساعة بقيمة تأويلية لدراسة السيرورات التاريخية الحديثة، فإن السواد الأعظم من علماء اجتماع الدين لن يعيروا هذا الرأي آذاناً صاغية؛ لأنهم تخلوا عن هذا النموذج، مثلما تبّنوه من قبل (9).
هكذا يعود السؤال في الغرب اليوم ليتجدد حول مآلات العلمنة، بما لها وما عليها. وهو سؤال يبدأ من النقطة التي انتهى إليها وكان مسبوقاً بها. أي من المنطقة المعرفية التي وضعت فيها العلمانية على الطرف النقيض من القيم الدينية.
كان نيتشه -وهو يمضي في مسراه الانتقادي لحركة الحداثة- يقول: “بالمعرفة الكاملة بالأصل يزداد الأصل تفاهة”. ومُراده في هذا أنَّ الأصل عندما يَصير معروفاً من خلال اختباراته العملية واعتلانه للملأ، يقل سحره، وتتلاشى جاذبيته. رُبَّما لخصَّت هذه الحكمة النيتشوية حال العلمنة التي اختُبِرت فعُرِفَت، ثم انكشف سَترُها بعدما بلغت غاياتها وانتهت إلى العدم.
وامتداداً لتأويلية نيتشه النقدية، سوف تأتي سُلَالات الحداثة اللاحقة، بما لا حَصْر له من “نقود” تُقيم الحدِّ على الأصل رغم انتسابها إليه. فالمسيحية -على سبيل المثال- التي أخرجت الحداثة من كُمُونها، وكانت إحدى أبرز ضحاياها في الآن عينه، ستعود لتحاكم الحداثة البَعدية بأسئلتها البَدئية. كما لو أنَّها تُسائلها إن كان بمقدورها الاستمرار في الحياة دون العودة للإيمان المسيحي، والاغتذاء من آفاقه الأنطولوجية المتعالية.
ومما له دلالة، أنَّ الإيمان المسيحي لم يرَ العلمنة كخصم أنطولوجي ينبغي محاسبته عمَّا اقترفت يداه بحقِّ المؤسسة اللاهوتية، بل ذهب إلى استيعابها وإجراء سلسلة من الإصلاحات الجوهرية تتلاءم مع روح الحداثة.
ومن البيِّن، أن كل ما جاءت به الموجة الإلحادية الغربية من محاجَّات، فإنما من تضخُّم الذات التي أسلمتْ نفسها لعَلْمنةٍ دارتْ جلُّ أسئلتها مدار “الطبيعانية” الصمَّاء. ولسوف يجد مثل هذا التضخم حقله الخصيب عند منعطفات الانزياح التام إلى العقل الخالص والعلم المكتفي بذاته. ها هنا سنشهد على الإلحاد كحادث تاريخي تمثّل بـ”العِلموية” و”الهيمنة”، وهما الفرضيتان اللتان لاَزَمتا حركة الحداثة الغربية سحابة سبعة قرون متصلة، ولا تزالان تستحكمان بمقالتها الفلسفية ومسلكها الحضاري إلى يومنا هذا:
- فَرضَية العِلْموية: ترى أنَّ العلم والتفكير العلمي قادران وحدهما أن يحدِّدا كل ما علينا أن نتقبله على أنه حقيقي. فرضيةٌ تقرر أن كل شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو أي فرع آخر من فروع العلم. أما الروحانيات، وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيات، فقد اختزلتها النظرة العقلانية في مجرد متغيرات في كيمياء الدماغ تتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكرو-بيولوجية المرتبطة بتطوُّر الإنسان. نتصوُّر نبؤاته عن الانحداثارات المنتظرة التي ستصيب حداثة فقدت معناها ونزلت إلى العدم. لذا؛ كان عليه أن يمضي إلى نقد الميتافيزيقا الناقصة إلى حدِّ الإعلان عن مَوْت الإله. وما ذاك الإعلان الذي ستُوظفه العلمانية تضليلاً وبهتاناً لترسيخ الانفصال عن المتساهي في الشخصية الإنسانية. كان بالنسبة لنيتشه بحثاً عن هذا المتسامي نفسه؛ أي عن البُعد الإلهي المغيَّب عن دنيا الحداثة.
- فرضية الهيمنة والاستحواذ: تقرِّر أنَّ الهدف من العلم -حسب فرانسيس بيكون- هو التحكُّم بالعالم الخارجي واستغلال الطبيعة، والسعي الحثيث لجلب المنافع أنَّى وُجِدَت.
كان التأثيرُ الباهر للثورة الكوبرنيكية جليًّا على مجاليْ العلم والفلسفة، إلا أنَّ هذا التأثير سينتهي إلى حدٍّ وجد فيه الغرب نفسه كما لو يقطن في كون بارد لا هدف له ولا غاية، وأن الوجود الإنساني فيه ليس إلا ظاهرة عارضة للمادة، نتجت عن مُصَادفة كونية، لا عن وجودٍ ينتظمه تقديرٌ إلهي. من أجل ذلك، سيكشف مسار الحداثة الفائضة عن خراب مبين في اليقين الجمعي، سيُعرِّفُهُ عالم الاجتماع الألماني دوركهايم بـ”هيكل الشرك الحديث”. وهذا هو في الواقع ما تستجليه عقيدة الفرد وشخصانيته المطلقة. فالشكل العبادي للشرك الحديث -كما ألمحَ دوركهايم- ليس الوثنية بل النرجسية البشرية، لمَّا بلغ تضخم الذات لديها منزلة الذروة في زمن العلمنة المطلقة؛ حتى لقد أمست عِبادة الفرد آنذاك، دين الحداثة الفائضة وديدنها (10).
الإنسان بوصفِه كائنًا دينيًّا
جَرَى التأسيس الفلسفي لحضارة الفرد مجرى الحداثة بأطوارها المتعاقبة. ولنا -على سبيل التمثيل لا الحصر- أن نتأمَّل ما جاء في شهادات بعض النظّار من الذين انصرفوا إلى دحض النظام الرسمي للكنيسة والتنظير لـ”لدين الفرد”: “إنَّ دين الإنسان لا يعرف الهياكل والمذابح والطقوس” (روسو)، “أنا بحد ذاتي فرقة دينية” (توماس جيفرسون)، “فكري هو كنيستي” (توماس باين)؛ مثل هذه الشهادات شكلت تعبيرات مقتضبة عمَّا اصطلح على تسميته بـ”التديُّن الفردي”. من هذا النحو إلى غيره من أنحاء، ستظهر معالم الأطروحة الإلحادية في تفكير الغرب الحديث. ومؤداها على الإجمال نسيان الله عن طريق حَجْب كلِّ ما يتوارى خلف فيزياء الحواس الخمس. فالذي أنتجته “الحداثة العِلْمَوية”، في العلوم المختلفة لم يفعل سوى أن ضَاعَف من تشيوُّء الكائن الإنساني، وحَكَم ببطلان بُعده الروحاني وأُفقِهِ الغيبي.
لقد ظَهَر في اختبارات الحداثة وامتداداتها المعاصرة أن ليس للمقدس لدى “العِلْموية” بصيغتها الإلحادية من محل. وهنا -على وجه الضبط- تكمُن إحدى أهم خاصِّيات التهافت في الفكرة الإلحادية. نعنِي بذلك نظرها إلى الإنسان كشيء زائل ككل الموجودات الزائلة؛ حيث لا يعود المتعالي الإلهي بالنسبة إليها غير وَهْم محض.
كان عَالِم الإنتروبولوجيا ومُؤرِّخ الأديان ميرسيا إلياد، ينفي أن يكون المقدَّس مجرد مرحلة من مراحل الوعي البشري، بل يعتبره عنصراً مكوِّناً لبنية هذا الوعي. وأكثر من هذا، فإنه يعتبر وجود العالم كله حصيلة جدلية لتجليِّ المقدس وظهوره. وكان يلاحظ أن أقدم صورة لعلاقة الإنسان بعالمه هي تلك العلاقة المشبَّعة بالمقدس الذي يفيض بمعانيه على كينونة الإنسان، وتكون ممارسته له في حد ذاته عملاً دينيًّا (11).
إنَّ هذا التأصيل الجوهري لمكانة المقدس في الحياة البشرية، يفضي لحقيقة أن الإنسان -بوصفه إنساناً- هو كائن ديني. والتنظير الفلسفي منذ بداياته الأولى كان ممتلئاً بسيلٍ وافر من الدلالات والرموز والمعاني ذات المغزى الديني. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش إلا في عالم ذي معنى؛ فالإنسان المتدِّين -على وجه الخصوص- هو الأكثر توقاً للعيش في محاريب القدسي، أو إلى الهجرة نحوها بلا كلل. وما ذاك إلا لأن هذا العالم المتسامي الذي يستمد جاذبيته من الغيب، هو بالنسبة للمتديِّن عالمه الواقعي والحقيقي. وهو الذي يمنحه الأمل بالآتي، وبالسعادة التي ينتظرها وإن لم تأتِه بعد. ولأنَّ المتديِّن لا يجد نفسه إلَّا في محل ممتلئ بجلال المقدس وجماله، فمن أجل أن يفتتح بهذه الإقامة “البرزخية” سبيلاً إلى السكن في عالم الألوهية الفائض باللطف والأمن ولذة القرب. أي أنه يرجو الخاتمة في المكان الأعلى طُهراً وتقدسُّاً، مثلما كان من قبل كائناً طهرانيًّا في علم الله وحضرته المقدسة (12).
قد يكون الادعاء الأكثر رواجاً في الاحتجاج الإلحادي، كامناً في شُبهة التناقض بين الإيمان والعقل. وهذا عَيْن ما صوَّبت عليه العلمنة على مدار أزمنة الحداثة بُغية إقصاء الدين، وإحلال التصوُّر العِلْمويِّ المحض كمعيار نهائي لفهم الكون: إنساناً، وطبيعة.
تلقاء هذه الشبهة، يُطرح السؤال حول المعنى الذي تُستعمل فيه كلمة “عقل” حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها -كما هي الحال في الغالب اليوم- أن تُقال بمعنَى المنهج العلمي، والصرامة المنطقية، والحساب التقني، أم أنَّها تُستعَمل -كما كانت الحال في كثير من الحضارات البشرية، لا سيما الحضارة الغربية- بمعنى منبع المعنى، والبنية، والمعايير والمبادئ؟
جاءتْ أطروحة التناقض بين العقل والإيمان الديني كتمثيل بيِّن على مشروع التنوير الذي افتتحته الحداثة في مقتبل عمرها. وسيأتي من فضاء الغرب نفسه من يُساجل أهل الأطروحة ليُبيِّن أن الإيمان لو كان نقيضاً للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمِّر في المقابل نفسه، ويدمِّر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على أن يكون لديه هم أقصى. أي أن يكون شغوفاً بالله والإنسان في آن؛ وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطِّي الثنائية السلبية التي تَصْنَع القطيعة بين طرفيها. وحدُه من يمتلك ملكة “العقل الخلاَّق” -أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية- هو الذي يفلح بفتح منفذٍ فسيح يصل بين الواقع الفيزيائي للإنسان وحضـور المقـدس في حياته. وما نعنيه بالعقل الخلاَّق هو العقل الذي يُشكِّل البنية المعنوية للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة. وبهذا المعنى يصير العقل شرطاً تأسيسياً للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابية إلى ما وراء ذاته؛ أي إلى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيرية. بتوضيح آخر: عقل الإنسان مُتناهٍ ومحدود، ويتحرك داخل علاقات متناهية ومحددة حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصية في التناهي والمحدودية. لكن العقل ليس مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه، وعندها يجرب الإنسان انتماءً إلى اللاَّمتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءاً منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بد له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه همًّا لا متناهياً أي مُقدَّساً ونبيلاً. وحين يكون العقل بهذه الصيرورة مسلّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحققاً للعقل. ومقام الإيمان بوصفه حالة هم أقصى، هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الانجذابية. والنتيجة أنْ لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل، بل يقع كل منهما في داخل الآخر (13).
رُجوع الدِّيني تراجُع العَلْمَاني
هل يَعْنِي عَودة القضية الدينية إلى المجتمعات العالمية، والمجتمعات الغربية على وجه الخصوص، غياب العلمانية أو انكفاءها عن حضورها التاريخي؟ الجواب الابتدائي -كما تشير إليه صُورة النقاش بين النُّخب الغربية نفسها- لا تقر بمثل هذه المعادلة؛ لذا ستأخذ حلقات التفكير مساراً آخر لا يقوم على قانون النفي والإثبات، وإنما على سعي للعثور على منطقة وسطى تؤسس لتسوية المشكلة.
لا رَيْب أن “رجوع الديني”، هو عنوان إشكالي سيكون له آثاره البيِّنة على المفاهيم والأفكار والقيم التي تجتاح المجتمعات الغربية اليوم. من بين تلك الآثار: ما ينبري إلى تداوله جمعٌ من فلاسفة ومفكري الغرب سعياً للعثور على منظور معرفي يُنهي الاختصام المديد بين الدين والعلمنة. والذي تسالَمَ عليه الجمعُ فيما عُرف بنظرية “ما بعد العلمانية”، هو أحد أكثر النوافذ المقترحة حساسية في هذا الاتجاه. وما يُعزز آمال القائلين بهذه النظرية أن أوروبا الغنية بالميراثين العلماني والديني، قادرة على إبداع صيغة تناظر تجمع الميراثين معاً بعد فِرقة طال أمدها. ربما هذا هو السبب الذي لأجله ذهب بعض منظِّري “ما بعد العلمانية” -ومنهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس- إلى وجوب تخصيص إطار مرجعي يحضن أهل الديانات وأتباع العلمنة؛ سواء بسواء، بُغية العيش المتناغم في أوروبا تعددية.
شَغَف التساؤل حول صيرورة الاحتدام الديني العلماني ومآلاته، لم يتوقف عند هذا المفرق، كان ثمة منحى آخر تترجمه المحاورات الهادئة بين اللاَّهوت والفلسفة. واللقاء المثير الذي جمع قبل بضعة أعوام البابا بينيدكتوس السادس عشر إلى الفيلسوف هابرماس (14)، شكَّل في العمق أحد أبرز منعطفات التحاور الخلاّق بين الإيمان الديني والعلمنة في أوروبا. ومع أن اللقاء لم يسفر يومئذٍ عمَّا يُمكن اعتباره ميثاقاً أوليًّا للمصالحة بين التفكير اللاهوتي والتفكير العلماني، إلا أنه أطلق جدلاً قد لا ينتهي إلى مستقر في الأمد المنظور.
اللقاء الفريد بين الرجلين، أَظْهَر المسلَّمات التي ينبغي الأخذ بها لتحصين كرامة الإنسان في زمن بلغت فيه اختبارات الحداثة حدَّ التهافت. وجد هابرماس في العقل العملي لـ”الفكر ما بعد الميتافيزيقي العلماني” نافذة نجاة، بينما وجده البابا بنيديكتوس في الإنسان كمخلوق إلهي. يومها اعترف هابرماس باستعداد الفلسفة التعلُّم من الدين. كان لسان حاله يقول: ما دام العقل لم يستطع القضاء على الوحي في فضاء علماني، فليهتم الفيلسوف بالإيمان عوضًا عن الاستمرار في الحرب معه. ثم أصرَّ على ضرورة أن تولِي الدولة المشرِّعة للقوانين كل الثقافات والتمثُّلات الدينية عنايتها، وأن تعترفَ لها بفضاء خاص في إطار ما أسماه بالوعي “ما بعد العلمانيّ” للمجتمع. أما إجمالي ما ذهب إليه البابا، فهو دعوته إلى تحصين الحضارة الغربية المعاصرة عبر خمس ركائز: التعاون بين العقل والإيمان، مواجهة التحديات الجديدة التي تواجه الإنسان، فكرة الحق الطبيعي كحق عقلي، التعدُّد الثقافي كفضاء لارتباط العقل والإيمان، العقل والإيمان مدعوان لتنظيف وإشفاء بعضهما البعض (15).
لو كان لنا من عبرةٍ تُستخلَصُ مما دار بين اللاهوتي والفيلسوف، لقلنا إن ما حصل هو أشبه بإجراء ينبئ عن انصرام تاريخ غربي كامل من الجدل المزمن حول “بِدعة” الاختصام بين الوحي والعقل. لكن ماذا لو افترضنَا -بِناء على ما مرَّ- أنْ تكون صنيعة ما بعد العلمانية هي منطقة التوسط الفضلى بين نقيضين، شكلا محور اهتمام مثل سواهما من المفاهيم التي استحدثتها الحداثة، يجري القول على فكرة “ما بعد العلمانية” مجرى البدايات والنهايات. أي على بَدءٍ جديد يلي انتهاءات مضت. والأحاديث عن موت المفاهيم في ثقافة الغرب عمرُها عمرُ الحداثة. أحاديث لم يتوقف سَيلُها منذ أول نقدٍ “لتنويرٍ” مالت شمسُه إلى المغيب مع المنعطف الميتافيزيقي الذي قاده كانط، وهو يُعَاين معاثر العقل المحض وعيوبه. لم يكن شغف العقل الحداثي بختم المفاهيم والإعلان عن نهايتها، إلا رغبة ببدءٍ جديد. فالتاريخ ليس حركة انتقال من الخواء إلى الملأ، وإنما هو امتدادٌ جوهريٌّ بين الما قبل والما بعد. فكل مقالة عن نهاية أمرٍ ما، إنما هي ضربٌ من إعلان مضمر عن بَدءٍ لأمر تالٍ من دون الحكم عليه بالبطلان. في ذلك شَبَهٌ بنسبة ما مع تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا ليُظهر أن إنهاءها هو التملُّك الفعلي لها، وليس نبذها أو الإطاحة بها. فالانسحاب والتواري داخل السلالة الواحدة، لا يدلُّ بالضرورة على فعليْن متناقضيْن يُريد كلٌّ منهم نفي نظيره (16).
لذا؛ فإن المسرَى الامتدادي بين الما قبل والما بعد لا ينشط على سياق آليٍّ، كأنْ يتحرك من النقطة ألف إلى النقطة ياء دون أخذ وعطاء؛ فذلك ليس من طبيعة المسرى الذي نحن في صدده، وإنما هو فاعلية متضمَّنة في جوهر حركة التاريخ التي تتأبَّى على الانقطاع والفراغ.
الأمرُ بالنسبة للمفاهيم هو على النشأة نفسها من الفهم؛ أي أنها أدواتٌ معيارية للتعرف على الأحداث؛ فالحدث هو الذي يُنشئ للمفهوم محرابه في عالم الفكر، ثم يعود الفكر ليؤلفه على نشأة أخرى بعد أن أضحى في قلب الحدث. ربما لهذا السبب راح الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر (1756-1841) يركز على الوقائع الحيَّة، ويطمِئن معاصريه من الذين يقولون بضرورة النظام المعرفي الجاهز، “أن المصطلحات والتعاريف لا تتخذ مسارها على خط مستقيم، بل تشكل دائرة تروح فيها المفاهيم وتجيء على نحو التكرار والتفاعل والتجدُّد. فليس المهم من أين يبدأ المرء، إنما المهم هو أن توصلنا تلك المفاهيم إلى المركز”.. إلى الغاية (16). مِثْلَما وُلدت الحداثة الفائضة من فضاء المراجعات التي عصفت بالحداثة الأولى وما بعدها، كذلك وُلدت “ما بعد العلمانية” كمجاوزة لما اقترفته العلمنة من معايب، ظهرت قرائِنُها صورةً إثر صورةٍ، وحدثاً إثر حدث.
ما بعد العلمانية كتوسُّط بين ضِدَّين
قد تكون فكرة “ما بعد العلمانية” كأطروحَة تُخرج الثنائية الضدية بين الإيمان الديني والعلمنة من كُهوفها المغلقة، هي من أبرز الأطروحات التي تحفر مجراها اليوم في حقول التفكير الفلسفي والسوسيولوجي في الغرب. فما طبيعة هذه الأطروحة؟ وإلى أيِّ حدٍّ سيكون لها فضل التوفيق بين لاهوت الأرض ولاهوت السماء؟!
لم تتحوَّل “ما بعد العلمانية” إلى مقالة سارية في الزمن إلا بعدما أُشْبِعَت العلمنةُ جدلًا واختبارًا، حتى أوشكت أن تُهجر أو تُرمى في النسيان. والعلمانية شأن نظائرها الأخرى -كالأيديولوجيا، والديمقراطية، والحداثة، والرأسمالية الليبرالية… وسواها- راحت تحفر السبيل إلى الما بعد قصد التجدُّد والديمومة. وما كان ليتسنى لها هذا المنفسح لولا أن كفَّت عن الاستمرار في أداء وظائفها الكبرى. لكنَّ القولَ بوصول العلمانية إلى خاتِمتها، لا يعني في واقع الحال الحكم بموتها؛ فالختم هنا يدل على نهاية جيل تاريخي أدَّت العلمنة في خلاله مُجمل إجراءاتها، وصار عليها أنْ تتهيَّأ لتغيير وظائفها بما يُناسب الزَّمن الذي حلَّت فيه.
من أجل ذلك، سينبري بعض علماء الاجتماع، بعدما أضناهم البحث عن تعريف مُطابق لمصطلح “ما بعد العلمانية”، أن ينظروا إليها كحلقة مُستأنَفة تتصلُ بما سبقها، وتنفصل عنه في الآن عينه. هكذا سيلغي منطق عمل “ما بعد العلماني” صُوَرَ التتالي الهندسي (قبل-بعد، تغيير محافظة، حركة سكون)، ويعرِّف نفسه بوصفه حالة وعي معاصر، تتعايش فيه الرُّؤى الكونية للدين مع الرؤى العلمانية للكون (18).
وبهذا المعنى، لا تكُون “ما بعد العلمانية” نفيًا للعلمانية، وإنما استئنافًا لها بوسائط وشرائط وأنساق مختلفة. فلا يصحُّ أن ينسلخ التاريخ عمَّا قبله وعمَّا يليه انسلاخًا قطعيًّا؛ فهذا مُحَال؛ لأن الما قبل امتدادٌ للما بعد وتأسيسٌ له. فلن تكتسبُ حقبةُ ما بعد العلمانية واقعيتَها التاريخية ما لم تُقِرَّ بنَسَبِها الشرعي لميلادها الأول. فلو لم تكُن العلمانية حاضِرة في التاريخ الحي لحداثة الغرب، ما كان بالإمكان الكلام على ما بعدها. الحاصل أن ثمة ضربًا من جدليَّة استتارٍ وكُمُون وانقشاع، تَظْهَر فيها “ما بعد العلمانية” كمحصولٍ لتلك الجدلية المركَّبة.
مِنْ سِمَات ما بَعد العلمانية مجاوزةُ ما هو قديم وراهن، بمُحَدَثٍ تقتضيه ضرورات الزَّمان والمكان. ومن صفات المجاوزة وأفعالها: تموضُع المولود المتجدِّد في منطقة وسطى ينبني نظامها على الوصل والفصل دون إقصاءٍ أو إبطال. فالفصلُ شرطٌ للتجاوز، والوصلُ ضروريٌ للاستمداد مما تقدم فعله وحضوره.
وفي حالة ما بعد العلمانية، تنمو أسئلةٌ غير مَسْبُوقة في معرض الكلام عن الأخطاء التي اقترفتها العلمنة على مدى أربعة قرون من اختباراتها في المجتمعات الغربية. ومثلما استهلَّت العلمنة رحلتها التاريخية بمقولتها العجول “إزالة السحر عن العالم”، استهلَّت “ما بعد العلمانية” مسارها بمقولة معاكسة: “إزالة العلمنة عن العالم”. وبصرف النظر عن القصد من كلمة “إزالة”؛ سواء بما هي إستراتيجية تطبيق أو كتوصيفٍ لواقع، يظلُّ حَصَاد التنظير واحدًا.
معنى “إزالة العلمنة من العالم”، كما استعمله للمرة الأولى في بداية التسعينيات عالم الاجتماع الأمركي بيتر بيرغر (Peter Berger)، هو عودة الدين ليحتل مكانته في الغرب على حساب العلمانية. واللاَّفت أن بيرغر -الذي كان مدافعًا قويًّا عن أطروحة العلمنة- كان أول من أقر بأنه كان مُخطئًا عندما لم يعترف بأنَّ “العالم ما زال شديدَ التديُّن كما كان في السابق”. لقد كان قَلِقًا من هَجمة الأصوليين على النظام الحديث، وعودة ما قبل الحداثة إلى عالمنا المعاصر. بل إنَّ ثمَّة من قطع شوطًا أبعدَ ليرى أن: “إزالة العلمنة تعني أن عودة الدين تُسقط ركناً تكوينيًّا من أركان الحداثة؛ وبالتالي فإن الحداثة والدين متناقضان ولن يجتمعا أبدًا…” (19).
على الأكيد أن هذا التفسير لم يُضِف شيئًا مختلفًا عمَّا درجت الحداثة عليه لمَّا أمسكتْ بحضارة الغرب. لكنَّ هذا الفهم لعودة الدين في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة، يبدُو محدودًا جدًّا. وهو يترجم على الإجمال حالات تنتسب إلى “رجعيات علمانية” لم تستطع التكيف مع التحوُّلات العميقة التي يشهدها المجتمع الغربي. فلقد تبيَّن من معظم الدراسات الحديثة أن لا تعارض بين المسيحية الغربية والحداثة، بل يمكن القول إنَّ المسيحيةَ جزءٌ من تراث الحداثة، وأنَّ الحداثةَ وليدٌ شرعيٌّ للفلسفة المسيحية الحديثة. لذا؛ يذهب التنظير “الما بعد علماني” إلى أن وضعية الدين في مجتمع “بعد علماني”، ليس هو ذاته في مجتمع “قبل علماني”. وعودة الدين ليستْ رجوعًا إلى شيء كان من قبل، وإنما هو حضور جديد اتَّخذ سبيله إثرَ رحلة شاقة ومديدة، بدأت مع الإصلاح البروتستانتي، ولم تنته مع الانعطافة الكاثوليكية التي أجراها المجمع الفاتيكاني الثاني في ستينيات القرن الماضي.
المُشكِلة الحقيقية لمجتمعات ما بعد العلمانية، لا تكمُن في الفصلِ بين الدين والدولة، ولا في الثنائيات المتضادَة بين المقرَّر اللاهوتي والقوانين الوضعية، بل في التعدُّدية التي يعترف فيها الكلُّ بحاضرية الكل. لهذا؛ رأى المشتغلون على المُصطلح أنَّ الحديثَ عن مَا بعد العلماني منطقيٌّ، بقدر ما يُدخلُ في الحسبان موضوع التعددية، وعلى وجه التعيين حضور الأديان الأخرى -الإسلام، والأرثوذوكسية، واليهودية… وغيرها- لتكون سواءً بسَواء، إلى جانب البروتستانتية والكاثوليكية. بهذا المعنى، تتغيَّر أوروبا فعلاً: هنالك حُضُور كبير للإسلام، ومنذ سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، صَار أيضًا للمسيحية الأرثوذوكسية دور كبير. أما في الغرب الأوروبي، فهناك تطوُّر مطرد نحو قبول النظام التعددي.
مع أن «نظرية العلمنة” (Securalization theory) دخلتْ ضِمن أعمال تعُود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فإنّ تتبُّعَ الجذور الأصلية لفكرتها الأساسية مُتصلٌ بعصرِ التنوير الأوروبي. الفكرة كانتْ آنذاك في غَاية البساطة: “إنَّ التوجُّه نحو الحداثة يُؤدِّي بالضرورة إلى تراجُع، أو حتى انهيار، الدين؛ سواء في المجتمع، أو في عقول الأفراد. هذه الفكرة تحديدًا هي ما ثبُت خطؤها كما يلمِّح كثيرٌ من المفكرين وعلماء الاجتماع المعاصرين. فلا شك أنَّ الحداثة ترافقتْ مع توجُّهات واضحة نحو العلمنة، وفي أماكن مُعيَّنة أكثر من غيرها، لكنها أيضًا استفزَّت حركات قوية مُضَادة للعلمنة. وإضافة إلى ذلك، فإنَّ العلمنة على مُستوى المجتمع لا تعني بالضرورة العلمنة على مستوى الإدراك الفردي. لقد خَسِرت بعضُ المؤسسات الدينية قوتها وتأثيرها في الكثير من المجتمعات، ولكن في المقابل استمرَّت مُعتقدات قديمة وبرزت مُعتقدات جديدة لتلعَب دورها في حياة الأفراد، مُتَّخِذة أشكالًا مُؤسَّساتية في بعض الأحيان، ومُؤدِّية إلى تفجُّرات كبيرة في الحماس الديني.
ما بَعْد العلمانية كنقدٍ للحداثَة الفائِضَة
ضِمْن دائرة الجَدل المُستحدث حول العلمانية في الزمن ما بعد العلماني، يُميِّز علماء الاجتماع بين ثلاثة مفاهيم حول العلمانية:
- الأول: العلمانية كحِياد بالنسبة لجميع الأديان ووجهات النظر حول العالم.
- الثاني: العلمانية كمنظور “علماني” بديل عن المعتقدات الدينية.
- الثالث: العلمانية كنقدٍ -أو حتى معارضة ونقض- للأديان.
إنَّ مُعَاينة هذه المفاهيم الثلاثة، والتمييز فيما بَيْنِها، سوف يُسهم في ضبط وتظهير السمات المميزة للمجتمعات ما بعد العلمانية.
لقد كَان لنقدِ الدين في عصر التنوير ثلاثة أبعاد مُتمايزة بوضوح: بُعد معرفي مُوجَّه ضد الأفكار السائدة الميتافيزيقية وفوق الطبيعية؛ وبُعد عملي-سياسي مُوجَّه ضِد المؤسسات الكنسية؛ وبُعد ذاتي تعبيري-جمالي/أخلاقي مُوجَّه ضد فِكرة الله نفسها. وهذه الثلاثية النقدية شكَّلت الأركان الأساسية لنظرية المعرفة، التي اعتمدها خِطَاب العلمنة حيال الدين سحابة قرون متعاقبة.
في زمنِ الحداثة الفائِضَة لم تتبدَّد هذه الثلاثية، لكنَّها فقدت الكثيرَ من جاذبيتها العلمية ووظائفها الأيديولوجية. الآن، لم تعُد نظرية كوبرنيكس -على سبيل المثال- ذات أثر في مسيحية ما بَعد الحداثة. مع ذلك؛ فإنَّ الصِّدام الحقيقي بين العلم والدين ما بَرح يكمُن في مكان آخر. ذلك أنَّ المعتقدات الجزئية التي كان على الكنيسة التخلِّي عنها ليس منها ما هو ضروري للدين، بل إنَّ ما هو ضروري هو مَوْقِف مُعيَّن يُطلِق عليه فيلسوف الأخلاق الأمريكي والتر ستيس (Waltter Stace) “النظرة الدينية للعالم”. ولقد عبَّرت هذه النظرة عن نفسها في العالم الغربي بثلاثة اعتقادات:
* هناك موجود إلهي خلق العالم.
* هناك خطة كونية أو غرض كوني.
* العالم يُمثِّل نظاماً أخلاقيًّا.
هذه الاعتقادات -حسب ستيس- لا تتناقض مع المعتقدات الدينية: لا عِلم الفلك عند كوبرنيكس، ولا أية مُكتشَفَات علمية أخرى مُبكِّرة، ولا حتى أية مُكتشَفات علمية قد تَظْهر على شكل أعاجيب تُدْهِش الألباب في المقبل المنظور وغير المنظور (20). حتى أكثر الفلاسفة تشدُّداً في دنيويته كالفيلسوف الهولندي سبينوزا سيعود في لحظة صفاء وتأمُّل إلى الإقرار بحقيقة التلازم بين الدنيا والدين. فلطالما خَبِرَ سبينوزا العالم كمقدس. كانت رؤيا الله ملازمة للواقع الدنيوي الذي مَلأهُ بالرَّهبةِ والعجب. وكان يحس أنَّ الفلسفة والفكر هما شكلَان من أشكال الصلاة.
أمَّا فيلسوف التاريخ الإيطالي جانباتيستا فيكو (Giambattista Vico) (1668-1744) الذي شكَّلت أفكاره حالة انعطافية في مسار الحداثة؛ فقد استشعر بكشوفاته المعمقَّة العالم الما بعد علماني منذ ثلاثة قرون خلت.
بدا فيكو ناقداً في الصميم للمنطق المادي المحض في استقراء العملية التاريخية. لقد حرص على التمييز بين شأن الخالق وشأن المخلوق، دون أن يفصِل بينهما فَصْلاً مُطلقاً. كثيراً ما كان يؤكد على دور العناية الإلهية كحقيقة تاريخية. وعند هذه النقطة المفصلية بالذات، سوف نراه يُميِّز بين نوعيْن من الاعتناء الإلهي بالتاريخ البشري:
النوع الأول: العناية الإلهية المتعالِية المُباشرة، والتي عبَّرت عن نفسها في أعمال تاريخية خاصة وفريدة. مشيراً إلى ما قام به الأنبياء والرسل؛ حيث خصَّهم الله بعطاءات وقدرات وأفعال لا تُمنح لسواهم من البشر.
النوع الثاني: العناية الإلهية الباطنية، أو تلك الكامنة في التاريخ، والتي تعمل وِفق قوانين مُوحَّدة، وتستخدم وسائل طبيعية وبسيطة؛ مثل: العادات البشرية نفسها، وهي ما كانت تمتلكه كل الأمم (21).
لا تنَأى فلسفة فيكو في تدخُّل الله واعتنائه بتاريخ الإنسان عمَّا أخذت بها الفلسفة المسيحية عبر القدِّيسين أوغسطين وتوما الأكويني، في حديثهما عن المدائن الإلهية؛ حيث تتعايش فيها الكَثْرة والاختلاف على نصاب الانسجام والخيرية. ومثل هذه الرُّؤية سيكون لها الأثر اللاحق على ظُهُور رُؤى جديدة تمهد لـ”علمنة بَعدية” مُتحرِّرة من واحديتها، ومتجهة نحو تعدُّدية ينفسح فيها التلاقي بين البعدين المادي والمعنوي لحضور الإنسان في الكون.
ومَا مِن شك أنَّ الشواهد المقتضبة التي مرَّت، كانت حاضرة في الولادات الأولى للحداثة. بل هي التي أسَّست لـ”المَا بعد”، وإنْ احتجبت طويلاً في رُدهة الانتظار. أما وقد برز الكلام على ما بعد العلمانية كسبيل لإخراج الحضارة الغربية من أسرِ الاختصام المديد بين الديني والدنيوي؛ فسنكون كَمَن يطل على بَدْء جديد، أو التعرف على حَقْل ما بعد ميتافيزيقي، يتآخى فيه العقل والوحي، ليُنتجا معاً حقائق واحدة؛ ذلك أن العقل والوحي يُؤدِّيان الحقائق نفسها أنَّى اختلفت تجليَّاتها، وعلى هذا الأساس يصح القول إنَّ الحقيقة لا تناقِض الحقيقة.
ما بَعد العلمانية إذن، تجربة مُستجدَّة في التفكير الغربي بشقَّيه: العلماني، واللاهوتي. تجربةٌ تَتغيَّا وضع حد للاحتراب المديد بين خطين متعاكسين: إمَّا الإيمان المطلق بقوانين اللَّاهوت وسلطاته المعرفية، وإمَّا الإيمان بمُطلق العقل المحض، وما يُقرِّره من أحكام لا دينية لفهم العالم.
لقد قِيْل إنَّ أوروبا أصبحتْ أكثرَ علمانيَّة عبر السنين، كما قيل إنَّ العلمانية وصلتْ إلى نهايتها، وأنَّ مرحلة ما بعد العلمانية قد بدأت. وعلى رَأي يورغن هابرماس فإنَّ تأثيرَ الدين بات يلعب دوراً أكبر في حياة الناس، كما أنه عادَ إلى صُلب المجتمع الحديث.
إذن، ما بعد العلمنة مفهومٌ يقوم على فِكرة مركزية؛ مُفادها أنَّ العلمانية قد تكُون وصلت إلى نهايتها، وكما يُجَادل يورغن هابرماس فإنَّ مصطلح “المجتمع ما بعد العلماني… لا يشير فقط إلى حقيقة أنَّ الدين يستمر في توكيد وجوده في بيئات تزداد في علمانيتها، بل أيضاً، أن المجتمع في الوقت الحاضر لا يزال يضم نِسَباً وازنة من المجموعات الدينية” (22).
لكنَّ الشيء الأساسي في فكرة “المجتمع ما بعد العلماني” هو المجهود المبذول باتجاه التضييق على هذه الظاهرة في الغرب. والكثير من الدَّارسين يُلَاحِظون أنَّ هذه الظاهرة قد تُصبح حقيقية في البلاد الإسلامية بما أنها في أساسها حوار بين الدين والدولة (23). يقول هابرماس في هذا المقام: إن “ما بعد العلماني لا ينطبق إلا على بعض المجتمعات الأوروبية الثرية، أو بلاد مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا؛ حيث استمرَّ اختفاء الروابط الدينية بين الناس بشكل دراماتيكي، خاصة في فترة ما بعد الحرب”. يُمكِننا تطبيق هذا المصطلح على الولايات المتحدة أيضاً، التي تظل بالنسبة إليه “رأس حربة الحداثة”. في الفكر “الهابرماسي” لا علاقة لما بَعد الحداثي مع الأصولية، كما حاول بعض الدارسين أن يجمعوا بين المصطلحين دون نجاح. بحسب ما يقوله هابرماس، فإنَّ ما بعد العلماني يشير إلى تغيير في الوعي يرجع إلى ثلاثة ظواهر:
أ – إدراك أن النزاع الديني له أثر على الصراعات الدولية.
ب – اعتقاد أنَّ المؤسسات الدينية تلعب بشكل متزايد دور “مجتمعات تفسيرية” في الساحة العامة للمجتمعات العلمانية.
ج – واقع هجرة “العمال الزوار” واللاجئين، خاصة أولئك القادمين من بلاد لها خلفيات ثقافية تقليدية (24).
لذلك؛ فهابرماس يَدْعَم فكرة أنَّ الدول الإسلامية، وحتى الدول الأوروبية الشرقية، لا يُمكن أن تشهد فترة ما بعد علمانية. أو بتعبير أدق، فإنَّ هابرماس يستثني الدول الإسلامية من ملاحظاته؛ نظراً لطبيعة الإسلام كدين؛ حيث لا يتيح المجال للتحوُّل السَّهل إلى الدولة العلمانية رغم تزايد أصوات المثقفين الليبراليين الذين يدعُون إلى تجديد الشريعة؛ بحيث يسهُل الفصل بين الدين والدولة. إضافة إلى ذلك، فهو يستثني الدول الأوروبية الشرقية من ملاحظاته، ويرى أنَّه في المجتمع ما بعد العلماني لا بد من وُجُود بعض الشروط؛ مثل: دعوة المجتمعات الدينية إلى المشاركة في العملية الديمقراطية، على أساس أنَّ هذه المجتمعات عليها أن تحترم القيم الديمقراطية، وأن تعي حقيقة أنها تعيش في مجتمع عام تعدُّدي.
الما بَعد علماني كمُقترح لتعدُّدية الحداثة الفائِضَة
بقَطْع النَّظر عمَّا ذَهب إليه هابرماس في حَصْر المقترح “المَا بعد علماني” بالغرب الأوروبي، واستثنائِه لمُجتمعات العالم الإسلامي -وهذا بالطَّبع يستلزم نِقاشاً مُعمَّقاً في مورد آخر- فإنَّ السِّمة الأساسية للعصر “ما بعد العلماني الهابرماسي” هو التعدُّدية الثقافية التي تتيح المجال أمام تعايش مختلف الأديان والتقاليد والأفكار الفلسفية في مرحلة زمنية واحدة، وفي أغلب الأحيان هذه الفترة الزمنية تكُون في إطار مجتمع غربي. يذكُر عالِم الاجتماع الإيطالي ومحلل الفكر هابرماس ماسيمو روزاتي: أنَّ “مجتمعاً حقيقيًّا ما بعد علماني هو مجتمع متعدد الأديان؛ حيث تُوضع التقاليد الأصيلة في البلاد مع المجتمعات الدينية المهاجرة إليها. بكلمات أخرى، فإنَّ التعددية الدينية جزء من الظروف الاجتماعية للمجتمع ما بعد العلماني” (25). في الواقع، يُحاول هابرماس أنْ يفتح حواراً بين الدين والعلمانية، مُحَاوِلاً حل النزاع بين التعددية الراديكالية والعلمانية الراديكالية، مُقترحاً إقامة حوار يتعلق بإدماج الأقليات الأجنبية في المجتمع المدني، وتشجيع أعضاء المجتمع على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية” (26).
من المُهم الإشارة هنا إلى أنَّ أحد أوجه سُوْء فَهْم التنظير الهابرماسي، هو حقيقة أنَّه حين يستخدم مصطلحات ما بَعد العلمانية، لا يشير إلى المجتمع نفسه على أنه ما بعد علماني، وإنما إلى التغيرات المقابلة في الوعي فيه (27). لهذا؛ فهو يُشِير إلى ثلاث ظواهر تتسبَّب في تحولات الوعي المتعلق بما أسماه “ما بعد العلماني”؛ الأولى: الطريقة التي تَسِم فيها وسائل الإعلام العالمية المواضيع الدولية بسمة دينية فيما يتعلق بتوليد الصراعات والمصالحات. الثانية: الوعي المتزايد بالكيفية التي تشكل وتوجِّه المعتقدات الدينية للرأي العام؛ من خلال تدخلاتها في المحيط العام. والثالثة: هي الطريقة التي لم تقم بها “المجتمعات الأوروبية بنقلتها المؤلمة إلى مجتمعات ما بعد استعمارية تحوي عدداً كبيراً من المهاجرين بعد” (28).
لَئِن دلَّ كلّ ذلك على شَيء، فعلى تحوُّل غير مَسْبُوق في التفكير “الما بعد حداثي” -بجناحيه: الديني، والدنيوي- مثلما يشير إلى وجود مُنفسحات معرفية ذات وزن داخل البيئة الغربية، كانت ولا تزال ترى بهدوء موقعية الإيمان الحاسمة في وجدان الأفراد والحضارات. لقد أسفرت هذه المنفسحات عن أمرٍ ذي دلالة جوهرية في التحول المشار إليه: أن ليس ثمة تضادًّا بين الإيمان في طبيعته الحقيقية، والعقل في طبيعته الحقيقية. وأنْ ليس ثمة صراع جوهري بين الإيمان بالوحي والوظيفة الإدراكية للعقل. ومتى فُهِمَ ذلك على النحو الأتمّ، ظهرتْ الصِّراعات السابقة بين الإيمان والعلم في ضوءٍ مُختلف تماماً. فالصراع في حقيقته لم يكُن بين الإيمان والعلم، بل بَيْن إيمانٍ وعلمٍ لا يَعِي كلٌّ منهما بُعده الحقيقي. من قبيل المثال غير الحصري: لم يكن الصِّراع الشهير بين نظرية التطوُّر الداروينية، ولاهوت بعض الطَّوائف المسيحية، صراعاً بين العلم والإيمان، بل صِراع بين علمٍ يجرد إيمان الإنسان من إنسانيته، وإيمان حوَّله لاهوت السلطة إلى أيديولوجيا، ومن ثَمَّ إلى حرب مفتوحة على العقل.
لقد سَرَى سؤال الدين في الغرب مَسْرَى خُطبة الحداثة من مبتدَئِها إلى خبرها. فلو عاينَّا قليلاً منها، لا سيما الفلسفي والسوسيولوجي، لعثرنا بيُسر على أصْلِها الديني. كما لو كَان من أمرِ الحداثة حين أرادت تظهير غايتها الكبرى، أنْ تتَّخذ لنفسها صِفةَ مُتَعالية. ربما هذا هو السبب الذي نُظِرَ فيه إلى الحداثة وما بعدها كظاهرة ميتافيزيقيّة رغم دنيويتها الصَّارمة. فالحداثة من قبل أن تشرَع سيُوفها شرَعت أسئلتَها. وهي أول ما سألت، ساءَلَت الكنيسة المسيحية كخصيم لها بلا هوادة. لكنها حين مضت في السؤال لتمنح نفسها بعض اليقين، هبطت إلى عُمق الزمان الديني. لم تفعل الحداثة ما فعلت إلا عن أمر متأصِّل في ذاتها. فقد “استفرغتْ” ما يعربُ عن سيرتها الضاجَّة بالكامن الديني. وغالباً ما انصرفتْ إلى المسيحية لحَاجتِها إلى مُتَعالٍ يُضفي على أزمنتها فضائل القدسيِّ ومزاياه… أو ربما لأنها بحثت عن اعتلائها الأرضي فلم تجده إلا في فضاء الدين. لذا؛ كان عليها أن تُهيمِن على مَعْنَى المسيحية لتقوم مقامه، أو لترتدي بواسطته لبوس الفضيلة. لهذا الداعي على غالب الظن تناهى لنا كيف بدتْ أسئلة الحداثة وأفعالها مَحْمُولة على أجنحة الميتافيزيقا.
مَنْشَأ المفارقَة التي سَبْق وتطرقنا إليها في بحثنا هذا، أنَّ سؤال الحداثة جاءنا بالأصل من حقول المسيحية الواسعة؛ فإنه بهذه الدلالة وليدها الشرعي. بل إنَّ سيرة الحداثة مع المسيحية كانت أشبه بديانة خرجت من ديانة عاصرتها، ثم سبقتها، ثم من بَعد أن ارتوت من عداوتها لها عادت لتحاورها، ولو على كيدٍ مُضْمرٍ.
لقد حطَّت المنازعةُ بين الحداثة والكنيسة على أرض الفصل بين “دنيوية العلمنة” وجوهر المسيحية. لم تتوقف “العلمانية الحادة” لمَّا نازعت الكنيسة مَقامها، على احتكار قيم السياسة والاجتماع ووضع نظريات الدولة. فإذا بها تمضي إلى نهاية الرحلة لتنقلب على الكنيسة، وتُطيح بلاهوتها السياسي، وتحكم على ادعائه الحقيقة بالبطلان. بل إنَّها ستذهب مَسَافة أبعد في المواجهة، لتفتح باب المساءلة على مُجْمَل ما أنجزته الفلسفة الحديثة على صَعيدَيْها: القيمي، والأخلاقي. مثال لا حصر: تحوَّلت مقولة “الواجب” عند كانط، إلى مجرد “طاعة مطلقة” لنظام الدولة/الأمة و”أميرها الحديث”.
كانط نفسُه لم توفِّره سيوف الحداثة. فقد جاء شغفُه بالتفكير النقدي ليفتح على مُمارسة فلسفية لا تُبقِي مُنجَزات التنوير في منأى عن النقد. كانت غاية “ناقد العقل الخالص”، موقوفة على سعيه إلى حفظ الأنوار العقلية بالأخلاق العملية. وكذلك على رُؤيته بأنَّ الإنسان كائنٌ عاقلٌ، وبما أنَّه عاقلٌ فهو كائنٌ أخلاقيٌّ، وبما أنه أخلاقي فهو كائن ديِّنٌ.
لما انتصرتْ الحداثة على اللَّاهوت، وابتنتْ علمانيتها الحادَّة بعقل بارد، راحتْ تنظر إلى الكنيسة بوصفها نابضَ إرجاع للزمن، وإلى المؤمنين بوصفهم كائنات أسطورية تُغرِقُ العالمَ بالظلمات. لكن يبُدو أنَّ تلك النظرة طفقت تتهيَّأ لمنقلب آخر.. صحيح أن الحداثة انتصرت على اللَّاهوت، لكن رحلة الاستيقاظ قد بدأت وإن ببُطء شديد. ولعل العودة إلى سؤال الدين والإيمان الديني -سواء على مستوى النُّخب، أو على مستوى الوجدان العام- هو تجلٍّ من تجليات تلك الرحلة. وليس ما يدُل على تلك العَوْدة من السعي المضني لتظهير صيغة الوئام المفتوح بين شأن العالم وشأن الغيب. وهو ما تقترح نظرية “ما بعد العلمانية” توفيره لتحصيل اليقين المتشظي في زمن الحداثة الفائضة.
——————–
كَانَ الفرنسيون يقُولون إنَّ جمهوريتهم لم تنتصر إلا بدحر الكنيسة، لكنهم لم يلبثوا حتى أدركوا أن هذا النصر كان أشبه بانتصار فرنسا على نصفها الآخر.
ثمَّة من شبَّه مآلات ما بعد الحداثة بتلك الصورة المنسوبة إلى جاهلية القرون الوسطى. وقد عَنِي بها تلك الجاهلية المستأنفة، والتي تأتينا هذه المرَّة برداءٍ تكنولوجيّ “ما بعد حداثي”. وهذا بالضبط ما قصده اللاهوتي الألماني ديتريش بونهوفر؛ حين صبَّ جام نقده على حداثةٍ باتت مهووسة بعالمٍ صَار عبداً لأهوائه وأشيائه. حداثة تحوَّل فيها سيّدُ الآلة إلى عبدٍ لها، وانتهى تحرر الجماهير إلى رُعب المقصلة. والقومية انتهت إلى الحرب، وتفتَّحت مع الحداثة أبوابُ العدمية”.
حِيْن انتهتْ ما بَعد الحداثة إلى الحديث عن الإنسان الأخير وعن مَوْتِه، لم تكُن لتفعل ذلك إلا لتكشف عن جاذبٍ يقُود إلى مَعْنًى ما فوق ميتافيزيقي، بل رُبَّما عن رَغْبة كامنة بيومٍ تُستَعَاد فيه الإنسانيَّة على نشأة الجمع بين أفق الألوهة، ودنيا الإنسان، على نصاب واحد.
——————–
المراجع:
(1) وجدنا أنْ نأخُذ بتعبير “الحداثة الفائضة” توخِّياً لتوصيف حالة ما بعد الحداثة في لحظتها القصوى. وهي اللحظة التاريخية التي بلغتها إثر تحوُّلات عميقة في نظام القيم؛ حيث لم يعد بمستطاع العقل التقني -الذي استظلت به الليبراليات الجديدة- أن يُوَاجه أسئلة حجبتها الحداثات المتعاقبة منذ عصر التنوير إلى يومنا الحاضر. أما مقصودنا من تعبير “الحداثة الفائضة”، فقد ارتأينا تقديمَه كمقترح مفهومي يستجيب لمقتضيات اللحظة التي أشرنا إليها، ويستند إلى فرضية أنَّ الحداثة وصلتْ إلى ختامها بعدما فاضتْ عن حاجتها، لتتدفَّق على نحو مريع، وتغرق العالم بفوضى رقمية لا تعرف الحدود والضوابط.
(2) N. Berdyaev: the Russian Revolution, the uni.. of Michigan press, 1961, PP.11-12.
(3) Tocely Maclure/ Charles Taylor, Laïcité et Liberté de conscience, Edition Boréal, Canada- 2010 P. 25.
(4) رينيه غينون، “أزمة العالم الحديث”، ترجمة: عدنان نجيب الدين وجمال عمار، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية، سلسلة الدراسات الغربية، بيروت، 2016م، ص:77.
(5) من حوار أجرته مجلة “درشبيغل” الألمانية مع مارتن هايدغر، قبل رحيله بعشر سنوات، أي في ربيع العام 1966. انظر ترجمة الحوار في فصلية “الاستغراب”، العدد الخامس، خريف 2016م.
(6) مارتن هايدغر، “الكينونة والزمان”، ترجمة وتقديم وتعليق: فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012م. راجع أيضاً: جمال أحمد مُحمد سليمان: “مارتن هايدغر: الوجود والموجود”، إشراف أحمد عبدالحليم عطية، دار التنوير، بيروت، 2009م، ص:7.
(7) محمود حيدر،” الفيلسوف الحائر في الحضرة”، فصلية “الاستغراب”، العدد الخامس، خريف 2016م.
(8) ميشال فوكو، “ما الأنوار؟”، دار الأنوار، بيروت، 2003م، ص:25.
(9) خوسيه كازانوفا، “الأديان العامة في العالم الحديث”، ترجمة: قسم اللغات الحية في جامعة البلمند، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005م، ص:25.
(10) Julio Olalla, The Crisis of the western mind Oxford Leadership Hournal London, 2009.
(11)Eliade La Nostalgie des origins: Méthodologie et histoire des religions, ed Gallimard 1971. P 7[
(12) محمود حيدر، “تدنيِّ الإلحاد”، فصلية “الاستغراب”، العدد السابع، ربيع 2017م.
(13) بول تيليتش، “بواعث الإيمان”، ترجمة سعد الغانمي، دار الجمل، بيروت، 2005م، ص:120.
(14) حصل هذا اللقاء التاريخي بين هابرماس والبابابنيديكتوس في بداية العام 2004، وجرى تنظيمه في مقر الأكاديمية الكاثوليكية بمدينة ميونيخ الألمانية.
(15) يورغن هابرماس وجوزيف راتسينغر البابا بنيديكتوس، XVI جدلية العلمنة والعقل والدين، تعريف وتقديم: حميد لشهب، جداول للنشر والترجمة، بيروت، 2013م، ص:33-43).
(16) محمود حيدر، “ما بعد العلمانية: منطق الحدث وفتنة المفهوم”، فصلية “الاستغراب”، صيف 2014م.
(17) Franz von Baader, Revision der Philosopheme der Hegelschen Suhule Besiiglich auf das Christentum, in www, noormags. Ir Franz von Baader’s Criticism of Modern Rationalism: A brief Overview 21 SW, VOL. IX, P, 118.
(18) Kristina Stoekl, Defining The postcular, Http://Synergio-Isa.ru/wp-Content/uploads/201202//Stoekl-en. Pdf.
(19)Peter Berger, The Desecularization of the World زوال العلمنة من العالم
(20) ولتر ستيس، “الدين والعقل الحديث”، ترجمة وتعليق وتقديم: إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، 2009م، ص:49.
(21) د. عطيات مُحمد أبو السعود، “فلسفة التاريخ عند جامبا تيستا فيكو”، دار الفارابي، دار التنوير، بيروت، 2006م، ص:23.
(22)J. Habermas, (2006) “On the Relations between the Secular Liberal State and Religion”. In H. de Vries – Lawrence S., eds. Political Theologies: Public Religions in a Post-Secular World, 251 -260. New York: Fordham University Press, p. 258.
(23) أنظر:B. S. Turner, (2012) “Post-Secular Society: Consumerism and the Democratization of Religion”. In P. S. Gorski, D. K. Kim, J. Torpey & J. van Antwerpen, eds. Post secular in Question: Religion in Contemporary Society. 135-158. New York-London: New York University Press.
(24)J. Habermas, (2008) “Notes on a post-secular society” (originally text in German in Blätter für deutsche und internationale Politik, April 2008). Politics and Society [online]
Available at http://www.signandsight.com/features/1714.html [Accessed 14 March 2012].
(25) R. Massimo, (2011) “Longing for a Postsecular condition: Italy and the Postsecular”. In Politics, Culture and Religion in the Post – secular society. May 13 2011. Bologna University, Faenza.
(26) B. S. Turner, (2012) “Post-Secular Society: Consumerism and the Democratization of Religion”. Opp. cit., p. 144 -147.
(27)E. Mendieta, (2010) “A Post Secular World Society? On the Philosophical Significance of Postsecular consciousness and the multicultural world society: an interview with Jurgen Habermas”. Translated by Matthias Fritsch. In The Immanent Frame, Social Science Research Council, 3 February 2010, p.3. Available at http://blogs.ssrc.org/tif/2010/02/03/a-postsecular-world-society/.
(28)J. Habermas, (2009) ‘What is Meant by “Post-Secular Society”? A Discussion on Islam in Europe’. In Habermas, J., ed. Europe: The Faltering Project. Cambridge: Polity Press, p. 65.
3,297 total views, 2 views today
Hits: 223