حوار “شرق غرب” الثقافية مع خالد مُحمد عبده:
خالد محمد عبده
باحث في الإسلاميات والتصوف، ومسؤول مركز “طواسين”، صدر له حديثًا في الدرس الصوفي كتاب (معنى أن تكون صوفيًّا)، و(الرومي بين الشرق والغرب)، كما صدر له بالاشتراك مع سبيستيان غونتر كتاب بعنوان “أميّة النبي في التراث الإسلامي”، إضافة إلى إعداده وتحقيقه عدة كتب في أدب الجدل والدفاع بين الإسلام والمسيحية، نُشرت في القاهرة ما بين عامي 2003-2006. كما حقق من التراث الكلامي والصوفي رسالة الإيمان للإمام الأشعري، ومهمات الواصلين من الصوفية البالغين، واللوامع للخركوشي، ومن الجدل والحوار الإسلامي المسيحي ركز الباحث المصري اهتمامه منذ سنوات بالتصوف الإسلامي ونشر العديد من الكتب والبحوث بالدوريات العربية والمراكز البحثية. وشارك في العديد من المؤتمرات وألقى مجموعة من المحاضرات عن التصوف الإسلامي في كل من مصر، والمغرب، والسنغال، وسلطنة عُمان، والبحرين، ولبنان، وتركيا.
—————————————————-
أجرى الحوار :أمامة مصطفى اللواتي
—————————————————-
كيف جاء اهتمامك بموضوع الإسلاميات والتصوف؟
نشهد كلنا صراعا وعنفا يتعلق بالأحقية، فكل فرقة ترى أنها تمتلك الحقيقة؛ لذلك اتخذت من البحث في الجدل الإسلامي المسيحي في القرن الثاني الهجري موضوعا لدراستي في مرحلة الماجستير، وهو ما قادني لاحقا للاهتمام أكثر بالتصوف. والملف الإسلامي المسيحي للأسف، ملفٌ يتم تحريكه سياسيا، ونجد أن الأسئلة والجدالات القديمة هي التي يتم إعادة طرحها، وليس فقط إعادة إنتاجها؛ كقضية صَلْب المسيح مثلا.
نجدُ أنَّ الكثيرَ من أصحاب الديانات الأخرى مُوحِّدون، بل ويؤمنون بالوحي أيضا، ولكن بطريقة مختلفة. فالمسلم قد يرى أن الإنجيل كتاب قد مسَّه التحريف، في حين يرى المسيحي أنه عبارة عن بشارات، وكلٌ من كُتَّاب الإنجيل قد دون هذه البشارات عن المسيح، وقد لا يتفهم بعض المسلمين ذلك الاختلاف، في حين يتفهمه الصوفي. فمثلا نجد أن الشوشتري الذي رحل من الأندلس الى طرابلس ثم إلى مصر؛ حيث تم طرده هناك من قبل أتباع ابن تيمية، كان حين يمر بالأديرة في طريقه لمصر، يسمع الناس وهم يرددون مصطلحات تتعلق بالديانة المسيحية؛ مثل: الثالوث، والكأس، فلم يجد حرجا في الاستفادة من هذه المفردات، وتوظيفها في أشعاره، ومن ثم إكسابها دلالات صوفية.
يُكّيف الصوفي المصطلحات والحالات التي يعيشها، ويحول كل ما يقع في يده إلى مادة جديدة. الحزن الذي عاشه الرومي بسبب غياب أحب انسان إليه -وهو شمس التبريزي- قاده إلى أن يكتب المثنوي، صانعا منه هذا المتصوف المعروف. وفي كتاب “الصوفية بين الأمس واليوم” للسيد حسين نصر، يعود الكاتب للتاريخ الإسلامي؛ حيث يتطرق بالذكر إلى عرفاء فارس؛ فالصوفية الفارسية مثلا أُفقها واسع وبيئتها غنية، والفارسي وريث ديانة وحضارة عريقة قبل الإسلام؛ لذلك لم يتنكر الفارسي للزرداشتية بل استفاد منها، ونجد في أشعار سعدي في ديوان (الكلستان) مفردات من أدبيات الزرداشتية من منطلق صوفي كتسميته للشيخ الصوفي بشيخ المجوس.
الصوفية في علاقتها مع الأديان السابقة تتبع علاقة إسلامية حقيقية؛ فالإسلام يصدق ما بين أيديهم ومهيمن عليهم، والهيمنة هنا كما أفهمها هي التأمين على الشخص، وليس إزالته أو محوه، وكما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- “إنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَكْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ”. ويحمل الإسلام رؤية توحيدية جامعة للأديان كلها، وخاتمية الدين الإسلامي لا تعني إلغاء الأديان السابقة، وقد استفاد الصوفي أكثر من غيره من هذا البناء المكتمل.
وكما يرى الكاتب الإيراني عبد الكريم سروش، في كتابه “الصراطات المستقيمة”، أن متابعة النبي هي تكرار التجربة النبوية. والحاصل أن الفِرق والتيارات الدينية التي ظهرت تصارعت على مفهوم العقيدة ومن على حق، ومن على باطل؟! عدا الصوفية التي استفادت من الجميع. فمثلا يرى أحد المتصوفة -واسمه العلاوي- أن على أهل الأديان التوحيدية ان يتكاتفوا معا لأنهم في النهاية يمثلون معا جزءا من الحقيقة، وهذه الرؤية تمكننا من التعامل مع المجتمع حاليا.
كتاباتك المختلفة حول التصوف والإسلام في موقع طواسين، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، نجدها مُوقَّعة باسم خالد الحلاج؟ فما سبب اختيارك لاسم الحلاج ليكون لقبا لاسمك؟
أول أبواب معرفتي بالفكر الصوفي بدأت مع شخصية الحلاج، ومن يرد أن يقرأ سيرة صوفي حقيقي لديه تجربة مختلفة وأصيلة، بعيدا عن مجال الوعظ أو التصوف بالوراثة، أو مجال التنظير والكتابة فيه، فينبغي له أن يقرأ الحلاج؛ فهو يكتب نفسه ويجسد ما يؤمن به، ورغم أنه تلقى علومه على أيدي مشايخ الصوفية، إلا أنه تجاوزهم بعد ذلك. بعض المتصوفة رفض تجربته مثل ابن جنيد، الذي رأى أنه ليس كل ما يعرف يقال، خاصة ذلك السر بين العبد وربه، في حين نجد صوفيا آخر كالشبلي يتفق مع الحلاج فيما ذهب إليه.
ذكرت في أحد مقالاتك أطروحة دكتوراه أُنْجِزَت في السبعينات بعنوان “جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام”، وقد أعيد طبعها عدة مرات، بعد أن لم تكن تلقى أي اهتمام.. فهل يمكنك أن تحدثنا عنها؟
كتب هذه الأطروحة عنايت الله إبلاغ، وهذه الدراسة من أوائل رسائل الدكتوراه في الأزهر عن الرومي، ثم ظهرت بعدها أطروحات أكاديمية أحدث منها وبمنهاج مختلف، ومن المهم فيها أن من يريد أن يفهم الرومي لابد له من قراءة فريد الدين العطار وسنائي الغزنوي، كما هو مهم القراءة للجامي مثلا لفهم ابن عربي، وعنايت الله إبلاغ كان على دراية كبيرة بالسابقين من هؤلاء العلماء. فالشغف للكتابة عن الرومي كان موجودا لدى الباحثين العرب، ولكن الجمهور لم يكن لديه هذا الشغف سابقا.
هل يمكن أن تحدثني عن تجربتك في التأليف مع الكاتبة المغربية عايشة موماد، التي قامت بترجمة أشعار مولانا الرومي من اللغة الفرنسية إلى العربية؟
تستحقُّ هذه الكاتبة كل التقدير، وقد قمنا بتأليف كتاب مشترك تحت عنوان “الرومي بين الشرق والغرب”، والهدف من هذا الكتاب هو أن نظهر للمهتمين مَنْ هو الرومي، وكيف أن وجوده وتأثيره ليس طارئا، بل كان معروفا من قبل في دول؛ مثل: مصر وسوريا ولبنان والبحرين…مثلا، وغيرها من الدول الغربية، وكان دور عايشة موماد أن تنقل هذه التجربة من الكتابات التي كُتبت بالفرنسية إلى اللغة العربية.
ومِنَ الذين تَرْجَمت لهم وكتبت عنهم عائشة موماد، الكاتبة الفرنسية إيفا دوفيتريميروفيتش، التي أسلمتْ، وطلبت أن تُدفن إلى جوار الرومي. وقد زارت هذه الكاتبة الفرنسية مصرَ، ودرست فيها، وترجمت مختارات من القرآن باللغة الفرنسية، وبدأت تكتب عن الإسلام وليس عن التصوف فقط، ولها كتاب “الإسلام وجها لوجه”، وهو الكتاب الذي قامت عايشة موماد بعرضه، كما ترجمت من الفرنسية إلى العربية كتاب “رباعيات جلال الدين الرومي” لايفاميروفيتش. وتعملُ حاليًا على كتاب بعنوان “رواية الروح”، وهي مختارات من كتابات لايفاميروفيتش. وفي كتاب “المولوية”، شاركتْ عايشة بترجمة بحثٍ من الفرنسية لألبرتو فابيو، وهو راهب إيطالي مقيم في إيطاليا ومتخصص في كتابات جلال الدين الرومي؛ من ضمنها: كتاب عن شروحات المثنوي. كما ترجمت أيضا للعربية مجموعة من الكتابات لباحثين فرس يكتبون باللغة الفرنسية.
وهل يمكن أن تحدثنا عن موقع “طواسين” الإلكتروني المتخصص في الإسلاميات والتصوف؟
أسستُ موقع طواسين الإلكتروني منذ سنتين؛ بهدف توفير معارف حقيقية عن التصوف في العالم العربي، وزيادة المحتوى المتخصص في التصوف في المجال الإلكتروني، بعد أن لاحظتُ انتشار معلومات خاطئة عن التصوف، خاصة وأن الطرق الصوفية الحالية أصبحت لا تقدم شيئا جديدا. استكتبتُ في الموقع مجموعة من الكتّاب، قام بعضهم بالترجمة إلى العربية عن لغات أخرى -كالإسبانية والألمانية والفرنسية والإيطالية- ويوفر الموقع مقالات وترجمات أو معارف وعلوما خادمة للإسلام. هدفتُ أيضا إلى توفير هذا المحتوى من حيث الكم والكيف والتعددية؛ مما يمكننا بعدها من إصدار مادة مطبوعة تحمل المقالات التي تم نشرها إلكترونيا، وخلال سنتين من عمر الموقع، تم إصدار أكثر من 10 كتب. ومن هذه الكتب التي صدرت حديثا كتاب عن المولوية، والذي يضم ثلاث مخطوطات عربية نادرة تساعد بالتعريف بجلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وفيها تعريف بالمولوية عربيا، كما يوفر الكتاب شرحا لأجزاء من مقالات شمس التبريزي تقدم للمرة الأولى.
نجد أن حياة الرومي حياة ثرية بالتنقل بين عدة مدن وحضارات، فإلى أي مدى أسهمت هذه المنعطفات في التكوين الصوفي والمعرفي لجلال الدين الرومي، وأيهما برأيك كان أكثر تأثيرا في شخصيته؟
ينتمي الرومي الى بيئة إسلامية صوفية، انتقل فيها من بلخ الى قونيا كما هو معلوم، والسفر عند الصوفية له أبعاد روحية كثيرة؛ سواء كان سفره بسبب الغزو المغولي، أو المحنة التي حدثت بين والده وفخر الرازي، حيث كان الرازي يمثل مدرسة المعقول والمنقول، مقابل والد مولانا الرومي بهاء ولد، أو كما كان لقبه سلطان العلماء، الذي كان يمثل مدرسة الروح. وهذه المدرسة كان ينتمي إليها متصوف وزاهد شهير آخر هو إبراهيم أدهم، ومن باب التناص والاستفادة من التراث السابق، نجد أن سيرة ابن أدهم تروى بشكل قريب من صورة بوذا؛ فمنطقة بلخ كان لا يزال فيها حتى عهد قريب تماثيل بوذا، حتى يقال إن الجماعات المتطرفة الإسلامية هي التي قامت بهدم هذه التماثيل، وبلخ كانت شاهدة على التنوع والتعددية الدينية بالفعل، من بوذيين ومسيحيين وصوفيين وفقهاء.
والرومي أتى عبر حركة صوفية؛ فوالده بهاء ولد، تلقى التصوف على يد نجم الدين كُبرى على الطريقة المسماة الُكبروية، والتقى بفريد الدين العطار وهو المشهور بكتاباته الصوفية؛ مثل: إلهي نامة ومصيبت نامة، والتقى كما يفترض بسنائي صاحب حديقة الحقيقة. ونماذج مثل الرومي تعيدنا لحاضرة الإسلام والنموذج الأول الذي يحضر فيه القرآن، وقصص السابقين، كما نجده في المثنوي مثلا حيث إشارات إلى اليونان، وكتاب كليلة ودمنة، فهو يجمع بين تراثات عدة، وهو أكبر ديوان شعري عن التصوف بلغة شعرية منظمة ويفوق مثلا ما كتبه ابن عربي.
لو جئنا إلى هذه العلاقة المتشابكة والمتداخلة لعلاقة الرومي بالتصوف، لوجدنا ان الرومي تخلص من عباءة الفقيه الصارمة إلى الحد الذي وجدناه يغني في الأسواق ويبتكر رقصته المولوية المشهورة فهل يمكن أن نقول إنه اختلف عن المتصوفين المعاصرين له فأوجد لنفسه رؤية او نظرية صوفية عرفانية خاصة به؟
هناك نمطان إن صحَّ التعبير من أنماط التصوف، فهناك التصوف المشهور عالميا أو عربيا وهو تصوف الطرق، وينتسب إلى هذه الطريقة الملايين حتى الآن، ولهذا النمط نظام أو بناء معين، كتب عنه مثلا أبو حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين” في محاولة منه للتوفيق بين الفقه والتصوف، وتقريب الشريعة من الحقيقة كما يقال. أما الرومي، فينتمي إلى بيئة صوفية تابعة لطريقة ولنظام معين، ولكن ليس بالصورة الموجودة حاليا في عصرنا؛ ففي عصرنا المعارف الصوفية لا تتقدم ولا تتطور، بل إن الطرق الصوفية تتدهور. ومن الملفت أننا نجد في نص كتبه ”بهاء ولد”، والد مولانا الرومي في أواخر القرن الخامس واوائل السادس الهجري؛ رفضا لفكرة التقليد والوراثة في المعرفة الصوفية؛ حيث يقول: “محوت الصور من نفسي لكي أرى الله، قلت في نفسي أمحو هذه عن الله لكي أراه وأتصل بمنافعه على نحو أسرع، ذكرت اسم الله فاتصل ضميري بالله، ورأيت الله في معنى الربوبية وصفات الكمال، رأيت أن الكيف والكيفية ليست لائقة لذاته وصفاته، فقلت في نفسي إن عالم الله شيء آخر.
ورغم ذلك، فقد انتمى الرومي بداية إلى هذا النوع من التصوف النظامي؛ فقد أوكل به والده إلى أحد أصدقائه، وهو برهانُ الدين محقق ترمذي، وهو حلقة من حلقات شيوخ جلال الدين الرومي الذين لا يكثُر الحديث عنهم. وهكذا تلقَّى الرومي العلوم الشرعية والصوفية في مدرسة في الشام، وحين استقرَّ في قونيا، وجلس على كرسي الوعظ بعد وفاة والده، مارس الوعظ وإرشاد المريدين، وأدى لقاؤه بالتبريزي إلى إحداث نقلة في هذا التصوف النظامي. لم يكن الرومي قد نظم شعرا قبل لقائه بشمس التبريزي، وهنا كانت لحظة الانكشاف. ومثل شخصية شمس كان لها وجود في حياة متصوفين آخرين؛ فالإمام الشعراني مثلا -الذي ألف العديد من الكتب- رافق شيخا اسمه سيدي علي الخواص، والذي كان رجلا بسيطا من العامة، وحين التحق به الشعراني أمره الخواص أن يحرق كتبه، ليتسنى له تلقي العلم الجديد.
أبو منصور الحلاج صاحب كتاب “الطواسين”، مثالٌ آخر للصوفي الذي لم تكفيه الطرق الصوفية، فقد كانت له أيضا طريقة ومشايخ يتبعهم، وكان أحد مشايخه ابن جنيد، الذي يقوم عليه التصوف السُّني في البلدان العربية، لكنَّ الحلاج لم يكفيه ما عند الجنيد، فانتقل إلى أن يكون سائرا صوفيا.
كَوْننا نتناقش علاقة جلال الدين الرومي بشمس التبريزي، هل يُمكن أن نقول إن التبريزي لم يكن بالمتصوف العادي، لذلك خلق بدوره من الرومي متصوفا غير عادي، ومختلفا عن المتصوفين الآخرين ممن عاصرهم؟
ألَّف الرومي كتابَ “غزليات شمس تبريزي” أو “الديوان الكبير”، وهو في النسخة التركية عشر مجلدات لم يُترجم منه سِوى مُختارات. من الواضح أن التبريزي ليس شخصا عاديا، بل مختلف، لهذا اختلف الناس حوله، لدرجة أن بعضهم رأى أن شمس ليس له وجود، وأنه شخصية خلقها الرومي، وبعضهم رأى أنها شخصية غامضة تتدثر بلباس أسود خشن، والبعض يرى أنه شخصية قلقة مثل شخصية أرسطو وافلاطون. في حين فسر البعض العلاقة بين الرومي وشمس بالعلاقة الجسدية والحسية، وأحد أسباب هذه النظرة الأخيرة مثلا هو عدم فهم الناس للتصوف من خلال أدبيات التصوف نفسها. في حين أن مثل هذه العلاقة بمعنى الغزل بين المذكر والمذكر موجودة في الثقافة الفارسية، وهو ما لم نألفه في الثقافة العربية. ومن الجدير بالملاحظة أنه لا يوجد مستشرق من المستشرقين القديرين، ومن الذين كتبوا عن الرومي مثل نيكلسون الذي اهتمَّ بالرومي، والمثنوي وغزليات شمس تبريز بحثا وكتابة أكثر من 30 سنة، لم يكن لدى هؤلاء تلك التفسيرات، ولكن ربما مع المستشرقين حديثا، تلوثت معارفنا بهذا الفهم.
في بحث المستشرقين في التصوف، هدف البعض منهم إلى البحث عن الجماليات الموجودة في الإسلام، فهل يمكن أن نقول إن التصوف هو قلب الإسلام؟
لو تحدثنا عن المستشرقين سنجد أنهم فئات؛ حيث يوجد من بينهم الباحث الضعيف والباحث القوي، وهناك من المستشرقين من يلبي رغبات بلده، وله أهداف محددة تحدث عنها إدوارد سعيد وهادي العلوي وسالم بنحميش، ورغم أن الاستعمار الظاهري انتهى، إلا أنه لا يزال هذا النوع من المستشرقين موجودا. أما الفئة الثانية من المستشرقين، فهم من المهتمين بفنون الإسلام المختلفة، ولهم اهتمامات متخصصة مثلا في الفقه أو التاريخ أو التصوف، وهناك النوع الثالث الذي يبحث في جماليات الإسلام، وتلك النقاط المضيئة المختلفة عن الصور النمطية السلبية السائدة عن الإسلام كنحو ربطه بالإرهاب، وبعضهم إلى جانب الاهتمام بالإسلام، اهتم بالأديان الأخرى أيضا.
وفي مجال التصوف، نجد أن بعض هؤلاء المستشرقين قد تحول للإسلام، أو إلى محبة الإسلام، بعد رحلته مع التصوف، ومنهم من لم يقطع مع دينه ومعتقداته السابقة، ولكنه أضاف إليها من الرؤى الجديدة التي اكتسبها “الله جميل، نحن لا نلغي نحن نضيف”.. وهكذا أصبح التصوف أحد الأبواب الممتازة للتعرف على الإسلام. وكل من يعمل في التصوف يعتبر ان الإسلام جسد وقلبه أو روحه في التصوف؛ فالمساحة الوحيدة الرحبة الآن في أدبياتنا الفكريةلنتحدث فيها عن أنفسنا بشكل واضح، ونحبب الآخرين فينا، لن نجدها من وجهة نظري إلا في التصوف؛ فالتصوف يتعالى على المذهبية التي تحوي في الأصل تلك الإشكاليات، فتصوف جلال الدين الرومي مثلا يتعالى حتى عن فكرة الدينية؛ لذلك تستفيد منه كل الأديان. الباحث الإنجليزي فرانلكين لويس -مثلا- ألَّف كتابا عن الرومي بعنوان “الرومي شرقا وغربا حاضرا وماضيا”، ركز فيه على أثر الرومي في العالم كله، وربما نحن في العالم العربي الأقل استفادة من هذا التراث.
تقرب جلال الدين الرومي من البسطاء، وأحبِّ مصاحبتهم ومجالستهم أكثر من النخبة من القوم في زمانه؛ لذلك يفخر الدراويش بالرومي، ويفخر به شيوخ المتصوفة، كيف يمكن أن ينتمي الكل بتوجهاتهم المختلفة الى الرومي؟!
الدرويش الحقيقي ليس هو الذي يُغني ويرقص فحسب، وقد نجد الدرويش هو الواقف في الخدمة والشيخ هو الجالس، لكن الدرويش هو النموذج الحقيقي للتصوف، وأحيانا نجد أن الشيخ الوارث للتصوف قد لا يذوق ما يتذوقه الدرويش من ثمار؛ لأن تسلمه للمشيخة والتصوف قد يكون بالوراثة، ولم يسبق لهذا الشيخ أن مر بتجربة صوفية أساسا. لذلك؛ نجد من شمس التبريزي التفاتا إلى هذا الجانب، فقد علم الرومي ألا يتصدر المجلس، بل كان يجلس في نهاية المجلس، وفي هذا التصرف نوعٌ من الرفض لفكرة التصدر والزعامة، وكسرٌ للقواعد والعادات البالية، وهذا ما كان يهدف إليه شمس أن يكسر القواعد البالية لا القواعد المفيدة، وبالقيم الإنسانية التي امتلكها الرومي ما دفع بجميع هذه الفئات للسعي للانتساب إليه.
وأود أن نُخصِّص مساحة من الحوار للحديث عن المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل، التي بذلت جهودا نوعية ومثابرة وشديدة الإخلاص في مجال البحث والكتابة، والتعريف بالتصوف الإسلامي وجلال الدين الرومي.
آنا ماري شيمل مستشرقة ألمانية مسيحية.. ذهبت لتكتشف الإسلام في البلاد التي لا يعرف المسلمون الآخرون من بقاع العالم الإسلامي الأخرى عنها الكثير، فتحدثت مثلا عن الاحتفالات بالمولد النبوي والمرأة الصوفية في الهند، وخالطت آنا ماري شيمل الناس العاديين والبسطاء، وفي كتابها “روحي أنثى”، قصص ترويها عن النساء اللائي التقت بهن. وبلغ من شغفها بعملها أنها كانت تترجم وحتى هي تتنقل في رحلاتها بالطائرة، تقوم بترجمة نص ثم تكتبه بأكثر من لغة، وهكذا ترجمت كتابات محُمد إقبال من الأوردية الى عدة لغات أخرى كالألمانية والتركية مثلا. وأثناء تدريسها لمدة 12 سنة للطلاب في جامعة هارفارد، كونت جيلا من الباحثين الممتازين الذين ما زالوا يكتبون عن الإسلام بشكل معتدل، ومنهم من يكتب بشكل متخصص في التصوف، والبعض في التاريخ الإسلامي، والبعض على التفسير والحديث…إلخ.
أجادت شيمل العديد من اللغات، بلغت ما يقارب 12 لغة؛ منها: لغات المجتمعات التي عاشت فيها، من مفارقات اللغات التي أجادتها أنها في أثناء زيارة لها للهند، ومع أحد المسئولين السنديين، قال لها إنك لن تتمكني من قراءة ما هو مكتوب على شاهد القبر؛ لأنه مكتوب باللغة السندية، فتروي شيمل في سيرتها، أنها بعد 6 أشهر أرسلت إليه خطابا باللغة السندية. فلم يكن هناك شيء يعيق هذه الشخصية المثابرة والمحبة للتصوف من المعرفة واكتشاف الجمال من حولها، فرغم أنها كانت مسيحية، إلا أنها كانت ملمة بالإسلام، بل وتصحح للباحثين الآخرين كتاباتهم عن الإسلام.. ومن الكتب التي ألفتها كتاب بعنوان “وإن محمدا رسول الله”، ترجمه الدكتور عيسى العاكوب، تحدثت فيه عن تبجيل النبي في الأدبيات الصوفية.
السؤال الذي يطرا على ذهن الكثيرين هو عن التصوف اليوم، والتصوف في المستقبل، فقد أصبحت أرواحنا تبحث عن هُويتها الروحية والإنسانية، فإلى أي مدى بإمكان التصوف أن يوفر للمهتمين بمختلف مستوياتهم الأجواء الثقافية والمعرفية كقوة جاذبة تدفعه إلى التفاؤل والجمال، وما معنى أن تكون صوفيا اليوم؟
نشهد اليوم عطشا لمعرفة التصوف والروحانيات، وهو ما أدَّى مثلا الى انتشار رواية “قواعد العشق الأربعون”، لأليف شفق، ذلك الانتشار الواسع في العالم العربي، وبغض النظر عن الجوانب الفنية للرواية، وكون الكاتبة جاءت من بيئة صوفية، إلا أنه لم يكن يخطر في ذهنها أن تروج مثلا للتصوف من خلال روايتها عن جلال الدين الرومي، ولكنها نجحت في نشر فكرة صوفية وإسلامية بشكل متمكن، دفعت الناس للاهتمام بالرواية والإجماع على جمالها؛ وذلك لأنها نشرت عن الحب والقيم الجميلة.
أعتقد أن التصوف جامع لكل الفرقاء، فلو قرأنا كلمات الرومي، أو حتى غيره من المتصوفة، لوجدنا فيها صبغة إنسانية يتفق أصحاب كافة الديانات على رقيها. القصد أن التصوف أدبيات وأفكار وقيم جامعة لكل الناس، والتصوف هو الباب الذي يعرف الآخر فينا بكل مساحاته الثرية، ولا يقتصر ذلك على الطرق الصوفية وحدها؛ فالتصوف أوسع من ذلك وهو أطياف وأفكار شتى.
4,297 total views, 2 views today
Hits: 441