إدوارد سعيد والموسيقى.. عزفٌ خارج المكان
د. خالد سعيد
لو لم يكتف بإصداره كتابه الأشهر “الاستشراق”؛ لظلَّ إدوارد سعيد في الذهنية الغربية لعقود طويلة مقبلة؛ فقد اقترنتْ عملية البحث عن العلَّامة الناقد في دوائر البحث العالمية بكتابه الموسوعي. وبالمقابل، اقترنتْ فكرة نقد نظريات الاستشراق بسعيد، فما ذُكر أحدهما إلا وارتبط بالآخر.
ولكن يجهل العرب عالمًا خَرَج من بين بطونهم، احترمه العالم أجمع، وترك فيهم ما يمسكون به من بعده: فكرًا، وثقافة، وعلمًا غزيرًا؛ فلا مجال للمقارنة بين إدوارد وتأثيره في العرب، وبين سعيد وعلمه وإبداعه في الغرب؛ فقد امتطى جوادَ الفكر، والعلم والمعرفة؛ ليخترق به الحدود الفاصلة بين الغرب العلماني والشرق الإسلامي؛ بفضل اطلاعه الواسع على هذين العالميْن، وتقديمه لأفكار جديدة ومختلفة، تباينت حولها الآراء.
فلم يكن إدوارد سعيد -الناقد والأكاديمي الأمريكي الجنسية، الفلسطيني الأصل، 1935-2003- أستاذًا للأدب المقارن بالجامعات الأمريكية فحسب، بل كان -أيضًا- مثقفًا عالميًّا، ومبدعًا خلاَّقًا؛ حظِي باهتمام الغرب، ونال احترام الجميع -شرقًا وغربًا- وكان بعيدًا عن سلطة الخلفاء، والسلاطين، والمماليك؛ فقد كفل له أن يظل -وهو البعيد في المنفى- حاضرًا في محافل الثقافة، والفكر، وطرفًا في حوار مع التاريخ، على اختلاف مشاربه، ومجاريه، وتياراته، ومع الحضارات، على تنوع منابعها وأصولها؛ فتُرجمت كتبه إلى عشرات اللغات، ونُشرت عن أفكاره مثلها؛ فتباين العلماء والمفكرون حول قضاياه المختلفة، خاصة الاستشراقية منها، وأطروحاته المختلفة والجديدة في عالم النقد، وتفكيكه للنصوص، بحِرفية شديدة، وتخمين ما بين السطور؛ ليصبح واحداً من أبرز النقاد والمنظِّرين الكبار في الأدب.
أشهر سعيد قلمه من غَمْده، بمجرد ظهور الشعر على وجهه، وأمسك به، ولم يتركه، حتى وافته المنية عام 2003، بعد صِرَاع طويل مع سرطان الدم؛ فقد تأثَّر بأسرته وعائلته بشكل كبير، وكان لوالديه عظيم الأثر في تكوين شخصيته، كمحطة رئيسية لفكره، وإبداعه؛ من حيث: توفير الإمكانات اللازمة لنشأة عالِم ومفكِّر بقدر إدوارد سعيد؛ فقد كانت بيئته الفكرية -بوجه عام- هي التي عزَّزت أركان سعيد، وقوّت من شوكته.
وبوجه عام، إذا أردتَّ أن تعرف إدوارد سعيد، فعليك بقراءة كتابه “الاستشراق”، وإذا رغبت في معرفة مدى تديُّنه، وحبِّه، ودفاعه عن الإسلام (رغم مسيحيته)، وعشقه لحوار الأديان، فاقرأ كتابه “تغطية الإسلام”، وإذا أردت أن تقترب من إدوارد، أو تقرأ مذكرات شخصية، تلهب حماسك، وتدفعك آلاف الخطوات إلى الأمام؛ فعليك بقراءة كتابه “خارج المكان”، وإذا رغبت في معرفة النقد العلمي الصحيح، وصنوفه، فعليك بزيارة سريعة لبعض كتبه، خاصة “العالم والنص والناقد”، وإذا عشقت دور المثقف، فتمتع بقراءة كتابه “المثقف والسلطة”، وإذا تمعَّنت في قراءة كتابه “القضية الفلسطينية”، فستعرف ماهية إدوارد سعيد (1).
… لا يُمكن ربط موقف العلَّامة إدوارد سعيد بالقضية الفلسطينية -بوجه خاص- أو بفكره، أو عقليته الذهنية، أو النقدية -بوجه عام- دون معرفة رؤيته الموسيقية، ومدى عشقه للموسيقى، التي نَمَت معه منذ نعومة أظفاره. ولمعرفة علاقة سعيد بالموسيقى، علينا التطرُّق إلى البيئة الفكرية والأدبية لسعيد -ولو سريعاً- وتأثيرها في فكره وتراثه الأدبي والموسيقي.
البيئة الفكريَّة لسعيد
تلقَّى سعيد تعليمه على يدِ نُخبة مُختارة من الأساتذة -سواء في القدس، أو القاهرة- خلال تنقلاته الدائمة، وترحاله ما بَيْن المدينتين، ومقارنته للتعليم البريطاني، حينما دَرَس في مرحلته الابتدائية بالمدرسة “الإعدادية” بحيِّ الزمالك الراقي في القاهرة، وتعليمه الإعدادي بـ”مدرسة القاهرة للأطفال الأمريكيين” بمنطقة المعادي في جنوب القاهرة، والتحاقه بفيكتوريا كوليدج فيما بعد، ثم توجهه للولايات المتحدة، وانتسابه لجامعة برنستون، فجامعة هارفارد، وقد تركت هذه التباينات التعليمية أثرًا إيجابيًّا بارزًا في فكر سعيد وعقله (2).
نشأ إدوارد على رؤية والده وهو يتنقل ما بين مهن ووظائف عدة ومختلفة؛ ما بين الترجمة، والمحاماة، وإدارته لأعماله في القدس والقاهرة، ليس لحالة مادية ضعيفة، وإنما تطويرًا وتنفيذًا للطموح الجارف للأب، وحبه وعشقه للمغامرة؛ فتعلم الطفل الصغير من والده الجسارة، والجرأة، ورباطة الجأش، وحب المغامرة، كما تعلم منه ومن والدته التي كانت تجيد (إلى جانب الإنجليزية) العديد من اللغات؛ أهمها: الفرنسية، وإن تعلم بعض مفردات الألمانية، أيضًا، بعدما كان والده مترجمًا، ومرافقًا لقيصر ألمانيا وليام، خلال زيارته للقدس.
ويُؤكد إدوارد سعيد أنَّ لوالده فضل كبير في تنشئته، فكريًّا وثقافيًّا؛ حيث يقول -في مذكراته “خارج المكان”: “يبقى أن أبي كان مزيجاً طاغياً من القوة والسلطان، ومن الانضباط العقلاني، والعواطف المكتومة، وقد أدركتُ -لاحقاً- أنَّ هذه جميعاً قد طبعت حياتي ببعض الآثار الإيجابية”. لم يعرف سعيد طعم الرفاهية، والرخاء، رغم أن عائلته كانت ميسورة الحال، وربما كانت من أفضل العائلات المقدسية حالاً، خلال فترة طفولته، وصباه، وهو ما يعترف به إدوارد بنفسه، وكل يوم له هو يوم جديد، وبداية لفصل جديد، ومرحلة جديدة في حياته، فيومه كان محددًا ومقسَّمًا من قبل أن يبدأ، ما بين ممارسة الألعاب الرياضية، وتلقي دروس البيانو والموسيقى، والقراءة، والاستماع لآخر الاسطوانات الموسيقية الأجنبية، مع اعترافه بكرهه للموسيقى العربية؛ حتى إنه كره حضوره لحفلة سيدة الشرق أم كلثوم وهو طفل، وتحديدًا عام 1944، بسينما ديانا (3). ومن وقتها، لم يشاهد أو يتابع الموسيقى العربية.ويبدو أنَّ عشقه وولعه -منذ صغره- بالموسيقى الأجنبية، وتحدث والدته معه باللغة الإنجليزية منذ نعومة أظفاره، وسفر والده للخارج غير مرة، وإتقانه لأكثر من لغة، قد ترك عنده أثرًا موسيقيًّا غربيًّا ملحوظاً.
سعيد والموسيقى
في البداية -وتحديدًا مع بلوغه السادسة من عمره- جلب سعيد الأب لولده الصغير مدرسًا خاصًّا للموسيقى في المنزل، مرافقًا لمدرسي المواد التعليمية الأخرى، إن لم يكن على رأسهم؛ مما غرس في صاحبنا حُبَّه للموسيقى، الذي سلَّحه بالحس المرهف، والشعور الجارف للأحرف الموسيقية، ونمَّا فيه النقد الموسيقي العالي؛ حتى إنه كان يتمنى -يومًا- أن يُصبح موسيقيًّا، لا أستاذًا للأدب المقارن! فقد تحدث سعيد كثيراً عن مدرس البيانو الخاص به، وأسهب في الحديث عنه؛ حتى إنَّه كان يعشق الموسيقى، مقارنة بالمواد الدراسية والتعليمية الأخرى.
ويقول سعيد في كتابه “خارج المكان” حول علاقته بالموسيقى، وكيفية نموها في مراحل طفولته وصباه: “وكنت قد بدأت -أيضًا- في تذوق الموسيقى الكلاسيكية، بجدية كبيرة. على أنه في تعلمي دروس البيانو، وقد بدأتها في السادسة، اختزلت ملكتها الذاكرة والميلوديا عندي في التدرب على السلالم الموسيقية، وممارسة تمارين (سزيرني)، وأمي حادبة عليَّ، أو جالسة إلى جانبي؛ فكانت النتيجة شعوري المتزايد بأنَّ ثمة ما يعوق تنمية شخصيتي الموسيقية. لم أشترِ الأسطوانات، ولم أستمتع بحفلات أوبرا أختارها بنفسي، قبل بلوغي الثامنة عشرة. ولما كان موسم القاهرة الموسيقي للأوبرا والباليه محظوراً عليَّ، فقد لجأت إلى ما تقدمه الـ”بي.بي.سي” والإذاعة الحكومية المصرية من برامج، وكانت متعتي الكبرى الاستماع إلى برنامج الإذاعة البريطانية من خمس وأربعين دقيقة، يُذاع بعد ظهر يوم الأحد، بعنوان “ليلة في الأوبرا”، وقد اكتشفت -باكرًا جدًّا- من خلال الكامل في الأوبرا لجوستاف كوبيه، أنِّي أكره فيردي، وبوتشيني، لكنَّني أهوى القليل مما أعرفه عن شتراوس وفاجنر، اللذين لم أشاهد أعمالهما الأوبرالية إلا حين شارفت على نهاية المراهقة” (4).
… كانتْ في حجرة إدوارد مكتبة ضخمة من الكتب والأسطوانات الموسيقية، مختلفة وكثيرة، ومتنوعة؛ كانت زاد سعيد، خلال سِنِي حياته الأولى، واستمرَّت حتى مماته، لكنها كانت برفقته طوال مراحل حياته الأولى، ما بين القدس والقاهرة، وهي المكتبة التي وفَّرها له والده، ليس لثرائه الفاحش فحسب، والذي مهد له الأرضية بشكل واضح أثناء هذه الفترة بشرائه ما كان يريده من كتب وأسطوانات موسيقية، ولكن -أيضًا- لأنَّ والده كان يمتلك سلسلة من “القرطاسيات”، أو المكتبات (بالمعنى الحديث).. فكان يصله كل كتاب يصدر حديثاً؛ حتى إنه قرأ -في مراحل مبكرة من عمره- كتبًا عالمية، ومسرحيات، وقصصًا خيالية كثيرة، كان يحكيها لأخواته البنات، ويمثلها معهن، وفي مدرسته، كما أنَّ والدته “هيلدا” كانت تشاركه تمثيل هذه القصص، أو المسرحيات الروائية أحيانًا؛ مما زاد من سعة أفقه. وقد كانت قدرته على الاستيعاب قوية، وذاكرته حاضرة وقوية (5).
وعلى الرَّغم من تأكيد سعيد -بعض الشيء- من أنَّ لأسرته بعض العادات والتقاليد التي تربى ونشأ عليها، وكرهها في فترات كثيرة من حياته، فإنَّه كان يتمرد عليها باستمرار، ويتهرَّب منها كلما أمكنه ذلك؛ فكان يتحايل على أسرته -التي كانت تفرض عليه مجموعة من الأسطوانات والأفلام، التي تراها الأسرة صالحة للأطفال فحسب- باستماعه للموسيقى من الـ”بي.بي.سي”، والإذاعة المصرية، والإذاعات الأجنبية، خلال سِنِي حياته الأولى، وذهابه إلى -أو هروبه من- دور السينما، في كثير من الأحيان، وكانت والدته تصطحبه وإخوته إلى دار الأوبرا المصرية للاستماع لآخر الأوبريتات، والعروض المسرحية والموسيقية؛ من بينها: حفلات كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وغالبًا ما كان يعرب عند سعادته بذلك -باستثناء حفلات أم كلثوم التي لم تلق رضاه، آنذاك- حتى إنَّه كان يُردِّد دائمًا أنَّ والدته كانت تمثِّل معه ما كانا يرونه من مسرحيات غنائية، أو أوبريتات (في المنزل)، فضلاً عنه تأكيده -دومًا- بأنه كانت تصل إلى والده أحدث الكتب المنشورة، والأسطوانات الموسيقية؛ بحكم طبيعة عمل والده، وتشعُّب علاقاته ومصالحه مع أطراف مصرية وعربية وأجنبية.
… لقد كانتْ الموسيقى بالنسبة لسعيد مجالاً رحبًا وواسعًا؛ للانطلاق نحو عالم آخر، بعيدًا عما يفرضه عليه والديه من أسطوانات موسيقية بعينها، وتعليم للبيانو. يقول سعيد: “كانت الموسيقى باتجاه غير مرضية، وسلسلة من تمارين البيانو المملة، ولكنها كانت في اتجاه آخر غنية، كانت عالماً عشوائيَ التنظيم من الأصوات، والصور الفائقة”. بَيْد أنَّ سعيد كان يخرج من إحساسه بالمنفى، ومملكته العقائدية، وعقليته الذهنية الفذَّة، بتعمُّده الابتعاد عن هذا العالم، عندما يسمع أو يكتب عن الموسيقى؛ فقد تكون الموسيقي هي -وحدها- التي أعطته الإحساس بالاستقرار الذي افتقده طوال حياته بالمنفى، في الولايات المتحدة الأمريكية (6).
لقد غدتْ الموسيقى جزءًا من حياة سعيد، وضرورة مثل الماء والهواء؛ فقد استمع لها وهو يقرأ ويكتب، وكذا في أوقات راحته، وجَمَع الكثير من مؤلفاتها، وأدبياتها، وطوَّر معرفة واسعة وضخمة في علم الموسيقى، وكانتْ له صَدَاقات ومعارف مع كبار ملحنيها؛ لذا لم يكن غريبًا أن يتبرَّع سعيد بإنشاء معهد للموسيقى في مدينة القدس المحتلة (7)، أطلق عليه اسمه (معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى)، والذي يُعد مؤسَّسة وطنية فلسطينية تتَّخذ من مدينة القدس الشريف مقرًّا لها، وتسعى لتنشئة جيل موسيقي فلسطيني جديد، قادر على إحداث تغيير نوعي في الواقع الثقافي الفلسطيني بشكل عام. تأسس المعهد عام 1993، في مدينة رام الله بالضفة الغربية، تحت مظلة جامعة بير زيت، وللمعهد فروع ثلاثة في كلٍّ من: القدس، ورام الله، وبيت لحم، وبه المئات من الطلاب والطالبات، ممن يتعلَّمون الموسيقى الكلاسيكية -العربية والغربية- إضافة إلى غيرها من برنامج التعليم الخارجي. ويعمل في المعهد 60 موظفًا؛ منهم: 40 أستاذًا للموسيقى من دول مختلفة، و20 موظفًا إداريًّا، مُوزَّعين على الفروع الثلاثة، لكنَّ مقرَّ الإدارة المركزية للمؤسسة ظل في القدس (8).
وفي العام 2008، نشرت جامعة كولومبيا الأمريكية -التي كان يعمل إدوارد سعيد أستاذًا للأدب المقارن فيها قبل وفاته، ودار نشر “بلومزبري” في لندن-كتاباً يحمل عنوان “الموسيقى في أعلى تجلياتها” (ترجمة تقريبية للعنوان)، عبارة عن مجموعة مقالات سعيد النقدية، التي كرَّسها خلال عقود ثلاثة للكتابة عن الموسيقى والنشاط الموسيقي، الذي شهده وشارك فيه، وهي مقالات نُشرت في: مجلات نقدية، وصحف يومية، ومجلات؛ ذلك أنَّ سعيد كان الناقد الموسيقي لمجلة “نيشين” الأمريكية، ذات التوجه اليساري؛ خاصة وأنَّ سعيد عندما كتب عن الموسيقى، شغله منها الموسيقى الكلاسيكية بالتحديد، وعندما يكتب كان كواحد من أهل الفن، وكمرجعية في مجاله. ولعلَّ ما ميَّز سعيد في كتاباته الموسيقية أنه كان قادرًا -بصفته ناقدًا أدبيًّا- على ربط الموسيقى ببعديها الثقافي والسياسي، ويفهم معنى الموهبة والعبقرية الموسيقية، وعلاقتها المضطربة بالحياة أو السياسة، ولكنه لطالما حاول أن يفصل في فهمه الموسيقي، وحياته الخاصة، ومواقفه، عن عبقريته الموسيقية (9).
لكنَّ سعيد -المنشغل بالنقد- كان باحثًا في الموسيقى؛ من ناحية محاولته فهم أبعاد الفنان، وحياته، وما يُشكل فهمه من مؤثرات: اجتماعية، وسياسية، وثقافية. وقد كان سعيد منغرسًا في الموسيقى؛ باعتباره عازفًا ماهرًا، أو قُل محترفًا على آلة البيانو؛ فقد تشكَّلتْ ذائقة سعيد -كما قالت أرملته ” مريم “؛ في مقدمتها لمجموعة المقالات- عبر مجموعة الأشرطة المتنوعة، التي كانت بحوزة والديه، وعبر استماعه لبرامج الموسيقى على “بي.بي.سي”.
ومع أنَّ سعيد شغف بالموسيقى، إلا أنَّه كان عارفًا بمُجريات الموسيقى العربية، بعض الشيء، وأظهر في مقاله -الذي نُشر في مجموعة مقالاته “تأمُّلات في المنفى” عن الراقصة المصرية تحية كاريوكا “تحية لتحية كاريوكا”- معرفة بعالم الموسيقى، والغناء، والرقص العربي، وأبعادها الثقافية والاجتماعية. خاصة وأنَّ سعيد نفسه قد التقى كاريوكا قبيل وفاتها مباشرة، خلال إحدى زياراته للقاهرة. لكن شغف سعيد واهتمامه الأكبر ظلَّ بالموسيقى الكلاسيكية، وكبار الموسيقيين العالميين؛ من: باخ، وموتسارت، وبيتهوفهن، وفاجنر، وحتى أعمال الموسيقار الكندي جلين جولد، الذي طوَّر اهتمامًا كبيرًا به، وجَمَع كلَّ ما كُتب عنه، واستمع لكل أعماله، وشاهد كل ما قدِّم عن حياته (10).
حتى إنَّ وفاة جولد عام 1982، كانت المحفِّز الأكبر لسعيد كي يكتب -بشكل جدي- عن الموسيقى، كما تقول أرملته مريم؛ فوفاة جولد عن خمسين عامًا، ونهاية حياة موسيقي، وعازف بيانو، يُوصف بالاستثنائي، وذي عادات غريبة، أدَّت بسعيد للبحث -وبعمق- عن حياة وإنجازات هذا العازف الماهر، وأصبح هذا العازف شغلاً شاغلاً لسعيد، وانهماكًا دائمًا له، وصل حدَّ الهوس.
بَيْد أنَّ الموسيقى لم تكن بالنسبة لسعيد مُحاولة للمعرفة والاستمتاع فحسب، بل مثلت له علاجًا وخروجًا من القلق والهموم. وهنا؛ تُشير مريم إلى حكاية عن أثر الموسيقى في شخصيته، بأنه عندما تعرَّض ولدهما “وديع” إلى حادث، وجب نقله للمستشفى. وفي الوقت الذي كان هناك قلق وخوف على حياة الولد، تقول مريم إنه بعد أن استوعب زوجها الخبر -خبر مرض ابنه- جاء بعد ساعة، وذكَّرها بضرورة الاستعداد للذهاب لحفلة موسيقية، كانا قد حجزا تذاكرهما فيها. ومع أنها بقيت تلك الليلة في البيت، وذهب هو وحده؛ فقد علمت بعد سنوات أهمية الموسيقى له؛ باعتبارها طريقة للتغلب على الخوف من المرض والموت. والأمر نفسه تكرَّر حينما تغلب سعيد على قلقه، بعد أن علم بمرض والدته بالسرطان؛ من خلال الموسيقى. وكانت الموسيقى مهمة له في تلك الفترة؛ لأنَّ والدته هي التي كوَّنت ذائقته الموسيقية منذ صغره. وبعد وفاتها عام 1990، أصدر كتابه “دراسات موسيقية”، والذي كرَّسه لذكراها.
وتقول مريم -أرملة سعيد- إنَّ الموسيقى ارتبطتْ في حياة سعيد كمعادل للزمن، وأنه قبل وفاته اتَّصل بابن عم له، يعمل قسًّا، وسأله عن المكان الذي يتحدَّث فيه الإنجيل عن أن “الساعة آتية، وهي الآن”. وتقول إنَّه بعدما استمع لإجابة ابن عمه، التفت إليها، وقال لها إنه قلق من أنها لن تعرف أي موسيقى ستعزف في جنازته. ومع أنَّها تريثت قبل الإجابة، إلا أنها عرفت أنه كان يخبرها أن هذه هي بداية النهاية، وأنه كان يموت (11).
كلُّ هذا يُؤكد مَدَى عشق سعيد للموسيقى، التي كتب عنها، وعن ذكرياته عنها في القاهرة. ومن هُنا، يبدو النقد الموسيقي الذي قدمه سعيد، ليس دليلاً على حرفيته، ومعرفته بالمعنى واللفظ، والمصطلح الموسيقي فحسب، بل لأنَّه كان مُثقفًا وضليعًا في عدد من مسارات المعرفة أيضًا، فقد كان ناقدًا، وأديبًا، وفاهمًا للفلسفة، واتجاهاتها القديمة والمعاصرة؛ فهو إنسان مُرهف الحس، ذو مبادئ وطنية وشخصية ذات أبعاد مختلفة (12).
بَيْد أنَّ ما يُؤخذ على سعيد -ضمن ما يُؤخذ عليه- تكوينه فرقة موسيقية في العام 1999، مع الموسيقار الإسرائيلي الجنسية -الأرجنتيني الأصل- دانيال بارنبويم (وهو الموسيقي الذي زار القاهرة، وعزف بدار الأوبرا المصرية، في أبريل عام 2009، وأثار عاصفة من الاعتراضات) تسمَّى “ديوان الغرب والشرق”، بعد أن التقيا صدفة في لندن عام 1992؛ وذلك بعد تعرُّف سعيد على بارنبويم؛ من خلال مناداته للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل (13)؛ حيث اشتركا معًا في إصدار كتاب موسيقي تحت عنوان “نظائر ومفارقات.. استكشافات في الموسيقى والمجتمع”، الذي صدر بعد وفاة سعيد بعامين.
خاتمة
تمنَّى سعيد لو كان موسيقيًّا، لا أستاذَ أدب مقارن! فالموسيقى كانت المتنفس الوحيد لسعيد للخروج من عالم المنفى، والإمساك بالقلم والورقة، والابتعاد عن العصف الذهني؛ فقد كانتْ له ذائقة موسيقية خاصة، أضفتْ عليه روحانية خاصة، تجلت في كل كتاباته، حتى باتتْ مُرادفة ومرافقة له طوال حياته: المهنية والأكاديمية والخاصة، على حدٍّ سواء.
———–
الهوامش:
1- خالد سعيد، “إدوارد سعيد ناقد الاستشراق.. قراءة في فكره وتراثه”، ط1، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2011، المقدمة، ص:11.
2- المرجع نفسه، ص:46.
3- إدوارد سعيد في مقابلة مع جمال الشاعر، قناة النيل الثقافية، القاهرة، أذيعت في 3/4/2009.
4- إدوارد سعيد، “خارج المكان”، نسخة إلكترونية.
5- خالد سعيد، “إدوارد سعيد ناقد الاستشراق..”، مرجع سبق ذكره، ص:50.
6- ديلسا ديمبرج – ستين، “من هو إدوارد سعيد؟”، ترجمة محسن عواد، عراق الكلمة (بغداد)، 2/5/2006، (http://www.iraqalkalema.com/article.php?id=1103).
7- حلقة نقاشية في صالون القاهرة على القناة الأولى المصرية، أُذيعت في 20/12/2008، وشارك فيها دكتور جابر عصفور، ودكتور أنور مغيث، وأدارها الدكتور إسماعيل سراج الدين.
8- معهد إدوارد سعيد للموسيقى بالقدس، ويكيبيديا.
9- اعتمدت، أساسًا، على: إبراهيم درويش، إدوارد سعيد في كتاب “الموسيقى في أعلى تجلياتها”، القدس2009 (القدس)، د.ت.
10- المرجع نفسه.
11- المرجع نفسه.
12- حلقة نقاشية بالقناة الأولى المصرية، مرجع سابق.
13- هدى الحسيني، بارنبويم: سنعزف لأول مرة في رام الله، وأتمنى أن نعزف في دمشق، الشرق الأوسط (لندن)، 18/8/2005.
9,890 total views, 2 views today
Hits: 1152