كيف نحارب الشائعات بالمعلومة والشفافيَّة؟
أمامة مصطفى اللواتيَّة
قبل عِدَّة سنوات، وفي إحدى محطَّات الترحال البعيدة عن أرض الوطن، استأجرتُ وعائلتي منزلاً في منطقة حديثة الإنشاء، تم تقسيمها مسبقاً إلى أجزاء أو مربعات سكنية، والمنطقة بدورها بدتْ جزءاً من مُخطَّط سكني أكبر لم يزل قيد الإنشاء والبناء حسب تخطيط مسبق. الحي الذي أقمتُ فيه كان يشتملُ على بعض الخدمات المهمة -مثل: محل للمواد الغذائية والاستهلاكية، وعدة مطاعم صغيرة ومحطة بترول- وبحسبان أننا القاطنون في هذا المنزل، فقد تلقينا بعد شهور قليلة وثائق ومعلومات من بلدية المنطقة تحُيطنا علما بآخر المستجدات حول جهود البناء والتعمير وسير المشاريع المختلفة -مثل: المحلات الاستهلاكية، والخدمات الضرورية، والمدارس الخاصة ودور الحضانة…وغيرها- وبدا واضحا أن مالك المنزل قد تلقَّى مسبقا هذه المعلومات قبل شرائه للمنزل في هذه المنطقة الحديثة. الرسالة احتوت أيضا على خريطة محدثة لتخطيط المنطقة السكنية كاملة، وما الذي تم إنجازه في هذه المرحلة، وتلك المشاريع المتوقَّع الانتهاء منها في المراحل المقبلة. وخلال السنتين اللاحقتين، كنتُ أتابع على أرض الواقع ما سبق وأن أشارت إليه الخريطة، كافتتاح محطة تعبئة وقود جديدة ومحل معروف للتسوق بالجُملة والمفرد. وحين غادرنا البلاد عائدين إلى أرض الوطن، كانت الأرض تُمهَّد لبناء مشروع المسرح الحيوي للمنطقة، تماما حيث حددت الخريطة.
ولنفترض أنِّي أبحثُ عن منزل أمتلكه لأسرتي، فقد أصبحتُ أُدرك أنَّ هناك قاعدة من البيانات التي يُمكن أن ألجأ إليها لمعرفة أكبر قدر مُمكن من المعلومات حول أي منطقة سكنية حديثة أنوي الشراء أو الاستثمار فيها. وقد أصْبَح لديَّ الآن تصورٌ واضح حول الخدمات والتسهيلات المتوفرة في منطقة محددة، وما هو طموح الجهة المنفذة للمشاريع المستقبلية للارتقاء بالمنطقة. إضافة إلى أنه لتجنُّب الحصول على معلومات غير صحيحة أو غير كاملة، فقد حرصت الجهة الحكومية المختصة -وربما بالتعاون مع الجهات الاستثمارية؛ التي هدفها تشجيع المواطنين على شراء منازل ذات جودة في منطقة حديثة ومخططة بطريقة مميزة- على تزويدي بمعلومات كاملة ورسمية من غير حاجة إلى الاستفسار من مصادر غير متخصصة، أو أقرباء، أو معارف متنفذين.
كيف يُمكن أن نقرأ الوضع السابق في أرض الوطن؟ تشتري الأرض وتبني منزلَ الأحلام بالقروض وبالكثير من العناء والصبر، ورغم ذلك ليست لديك أية فكرة واضحة عن الذي سيحدث حول منزلك خلال السنوات المقبلة؛ ببساطة لأنَّ المسؤولين أيضا مثلك لا يعرفون. قد يبدو من الوهلة الأولى أنَّ الموضوع يتعلق بالتخطيط، وهو وإن كان يتصل به إلا أنَّ الشاهد هنا هو كمية المعلومات ومصداقيتها، وكيف يُمكن الاستفادة منها لاتخاذ القرارات السليمة، وتقليص لجوء الفرد إلى مصادر غير رسمية للتثبت من الأخبار والأقاويل حول المشاريع الخدمية والسكنية والاستثمارية والحيوية…وغيرها. معلومات مثل موقع الشارع ستساعدني حتما في التخطيط لبناء واجهة منزل ومخارجه وحديقة المنزل؛ فهل سيكون الشارع المقرَّر أمام باب المنزل الرئيس مثلا، أم أنه سيكون مقابلا للمدخل الخلفي من المطبخ؟ هل سيأتي مستثمرٌ ذو نفوذ من تحت الأرض لينشئ بناية تجارية أمام منزلي العائلي ويقضي على الخصوصية الجميلة التي تتميَّز بها حديقتي، أم يجب أن أذعن للصدفة والحظ؟ بغياب المعلومات المتعلقة بالأمور الحياتية والمعيشية وليس فقط الأمور الطارئة، فإنَّ البديل هنا ليس سوى الشائعات التي تنثرها الأمنيات والتكهنات مع جُرعة متفاوتة من المعلومات المغلوطة.
وحيث إنَّ المقال يُركِّز على جانب مُحدَّد من الشائعة وهي تلك المتعلقة بدور المؤسسات في مواجهة الشائعات، فإنَّ الشائعة تنتج في وسط لا تقدم فيه المؤسسات معلومات مؤكدة وشفافة ومتوافقة حول القضايا المهمة في البلاد، مُهيأةً بذلك لتربة خصبة تترعرع فيها الشائعات ممزوجة بنسب متفاوتة من التوقعات الإيجابية، وربما السلبية وبعض التمنيات الشخصية. أيضا لا يُمكن تجاوز أنَّ قضايا الفساد واستغلال الموارد وعدم الاعتراف بارتكاب الأخطاء تؤدي لإخفاء المعلومات مما يُعرِّضها للتسرب بطرق مجتزأة وانتقائية، مهددا بذلك أيضا سمعة المؤسسة ومصداقيتها.
هل الشائعة ظاهرة محلية؟
يُعرِّف معجم المعاني الشائعة بأنها خبر مكذوب غير موثوق فيه وغير مؤكد ينتشر بين الناس. ويمكن للشائعة أن تتضمن قدرا ضئيلا من الحقيقة أيضاً. وبالتأكيد؛ فإنَّ الشائعات ليست ظاهرة محلية، بل قد تكون مجرد أقاويل تنتشر ضمن نطاق العائلة، أو الحي، أو في بيئة العمل، أو على مستوى الدولة. وقد تكون عابرة للقارات؛ مثل تلك الشائعات التي كانت تؤكد على أن العالم سينتهي في العام 2012، أو أنَّ هناك أجرامًا ونيازك وكويكبات سماوية متجهة إلى الأرض لتقضي على البشرية جميعا، وهناك شائعات متعلقة بأوقات الأزمات والحروب، وتلك التي تنشط بشكل متواصل في الحملات السياسية الانتخابية في بعض الدول، وهذا ما أدى ببعض الباحثين في مركز (Tow center for digital Journalism) -التابع لجامعة كولومبيا الأمريكية- إلى إنشاء موقع (Emergent.info)؛ مهمته تعقب الشائعات الأكثر انتشارا، ومن ثم تصنيفها إلى ثلاث فئات هي تلك التي ثبتت صحتها، وتلك الخاطئة تماما، وأخيرا الشائعات التي لم يتم التثبت منها. أما محليًّا؛ فقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي -خاصة تطبيق الواتساب- في انتشار الشائعات. ومن الشائعات التي كانت تتجدَّد بتجدُّد الحالة هي تلك المتعلقة بالأجواء المناخية في السلطنة، ولم تُحسم هذه الشائعات إلا بالتوعية الإعلامية وانتهاج المديرية العامة للأرصاد الجوية سياسة التحديث المستمر والواضح للحالة الجوية؛ مما أدى لقلة اعتماد الأفراد على المعلومات المتناثرة هنا وهناك إذا لم يكن مصدرها المباشر من المديرية نفسها. في حين نجد أنَّ التأخر في إنجاز بعض المشاريع الحيوية والتي تمَّ تخصيص مبالغ طائلة لها -مثل: مشروع مبنى وزارة التربية والتعليم، ومبنى المطار الجديد، وغياب الشفافية والوضوح حولهما بسبب سوء الإدارة والاستغلال- قد أدى لنمو الشائعات والتكهنات حول أسباب التأخير؛ ومنها: اتهامات بالفساد، وتوظيف عمالة غير متخصصة. وبدلا من الاعتراف بالأخطاء المرتكبة، ساد الغموض والتضارب في التصريحات الرسمية، واستمرَّت سياسة عدم الكشف عن معلومات دقيقة وواضحة.
لماذا ننشر الشائعة؟
في العام 2004، قام باحثان من معهد روشستر للتكنولوجيا بتحليل أكثر من 280 مجموعة نقاش على الإنترنت تشتمل منشوراتها على قدر من الشائعات. وجدا الباحثان أنَّ مجموعة جيدة من هذه النقاشات يدور بين أفراد يحاولون مشاركتها وتحليلها والنقاش حول محتوياتها. وبعبارة أخرى، فإنَّ هؤلاء الأفراد لم يكونوا ينشرون الشائعات كجزء من النميمة والرغبة في نشر المعلومات الخاطئة، ولكنهم كانوا يلجأون للشائعة كمعبر لاكتشاف الحقيقة، وهم في ذلك يشبهون الأفراد المهتمين بقراءة أخبار الصحف؛ فيقومون مثلا بمناقشة الأخبار الواردة فيها ومحاولة فهمها. وليس من المدهش أن يلجأ الناس إلى تداول الشائعات للوصول إلى المعلومات، خاصة مع غياب قاعدة وطنية للمعلومات، وافتقاد أغلب المواقع الحكومية للمعلومات الضرورية مع وجود بعض الاستثناءات الرائدة مثل الموقع الإلكتروني لشرطة عُمان السلطانية.
يلجا الأفراد إلى الشائعات لطمأنة أنفسهم، أو لاتخاذ الاحترازات المناسبة، خاصة مع ما نسميه شائعات الخوف، وهي تلك الشائعات السلبية التي تتعلق بأخبار سيئة كالنكسات الاقتصادية أو إفلاس الشركات، أو لتحذير الأصدقاء أو الأقارب من شيء محدد، وهذه النوعية من الشائعات تنتشر كالمرض المعدي بين الأفراد. ورغم ذلك، فقد نجد انتشارا لشائعات إيجابية تُسمى بـ”شائعات الأمل” كخبر ارتفاع الرواتب أو الحوافز مثلا. ومن أهم أسباب انتشار الشائعة -والتي تقع مسؤوليتها الفردية والأخلاقية على الفرد نفسه- تلك الشائعات التي ينشرها الأفراد لتحقيق مكانة اجتماعية معينة في وسائل التواصل الاجتماعي، أو زيادة شعبية صورتهم الاجتماعية. وقد أدَّت المرونة والآنية اللتان تمتاز بهما وسائل التواصل الاجتماعي إلى سهولة صنع الحدث ونشره ومشاركته، ولا يملك غالبية الأفراد الوعي والوقت المناسب للتثبت والتأكد من محتوى ما ينشرونه أو ما يقومون بإعادة إرساله، وكما يُفضل المحررون والقراء في الصحف الأخبار السلبية كونها تملك عناصر الإثارة والتشويق والألم، فإنَّ الشائعات التي تتضمَّن العناصر ذاتها تنتشر بسرعة أكبر.
6,883 total views, 2 views today
Hits: 541