لماذا المرأة العُمانيَّة؟! (١)
د. سعيدة بنت خاطر الفارسيَّة
كاتبة وباحثة
نتيجةً لكثرة تَكْرَار منع مقالاتي من النشر بالصُّحف العُمانية، بمُختلف مسمياتها، قرَّرت أن أطبع هذه المقالات الممنوعَة في كتاب، رُبَّما أختار له عنوان “مقالات في قفص الاتهام”، وإلى أنْ يَحِين ذلك اليوم، سنُتَابع النَّشر على سَطر ونترك سطرًا، بمعنى النشر هذا الأسبوع، والمنع في الأسبوع التالي، حتى يُقيِّض الله لنا فرجًا من عِنده.. ويقولون الإعلام العُماني تغيَّر، والله لو جِني علاء الدين خَرَج من فانوسه، لن يتغيَّر شيء في صَحَافتنا المحلية!!
المُهم، نحن في حيِّز احتفالات يوم المرأة هذا الأسبوع، ولقد قِيل الكثير والكثير عن المرأة في كافة الفنون والآداب عبر كافَّة الأمم، حتَّى صوَّروها لغزًا مُحيِّرا مُربِكا، لا يُمكن لأحد فهمه، فما سرُّ هذا الاهتمام الشديد بالمرأة؟! لعلَّ الإنسان لا يهتمُّ بالشيء إلا لكونِه مركزيًّا مهمًّا بالنسبة لحياته. وعليه نتساءل: هل المرأة مُهمَّة بشكل مركزي بالنسبة لحياة الرجل!!! يبدو نظرًا لشدة اهتمامِه بها نعم، إذنْ ما سر حيرته فيها؟ أيضًا يَحْتَار الإنسانُ في الأمر إذا كان غامِضًا جميلًا مُبهِرا، تحيَّرتْ في روعتِه الأذهان؛ فمن هذه الناحية فقط نتقبَّل نحن النساء اهتمامَ الرجال وتحيُّرهم فينا، عمومًا هناك قَوْل يُلخِّص كل هذا؛ وهو: “يقول الرجل في المرأة ما يُريد.. لكن المرأة تفعل في الرجل ما تُريد”، ونقول لهم شُكرًا لحُسن الظنِّ والثقة؛ فالفعل مُقدَّم على القول في مُعظَم الأحوال.
لماذا تخصيص يَوم للمرأة؟ طبعًا من حيث فِكر صاحب الجلالة، معروف سلفًا أنَّه نوع من التكريم للمرأة العُمانية، وتشجيعها على مُوَاصلة مَسِيرة العطاء، كشريكة أساسية في التنمية؛ فدور المرأة كبيرٌ جدًّا ليس فقط في النهضة الحديثة، ولا من قبلها، لكنَّه دَوْر تاريخي قديم ومُقدَّر؛ ففي قائمة تراجِم النساء العُمانيَّات على مرِّ التاريخ أسماء لامِعة حُقَّ علينا اليوم أنْ نُعيد إحياء سيرتها، وتراثها المميز؛ فإذا بَحثنا عن شخصيَّات نسائيَّة عُمانيَّة، لن يخذُلنا التاريخ من وجود نماذج نسائية ناجحة جدا في كافة المجالات؛ ففي المجال السياسي: سنجد السيدة موزة بنت الإمام أحمد البوسعيدي مُؤسِّس الدولة البوسعيدية، والتي عاشت في الفتره ما بين عام 1783م حتى 1832م، وهي شخصية سياسية عسكرية فذة؛ حاولتْ أن تنقذ عرش الطفل سعيد ابن أخيها السيد سلطان بن أحمد، بعد أنْ تُوفِّي عنه والده وهو طفلٌ صغير، وكان لا بد من تنصيب وَصي عليه؛ نتيجة للأطماع المُحِيطة به، أعلنتْ أنَّها ستتولى بنفسِها حُكم البلاد، والوصاية على ابن أخيها حتى يبلُغ سنَّ الرُّشد، ويتولى شُؤون الملك بنفسه؛ لعبت السيدة موزة دوراً كبيراً في إعداد السيد سعيد وتربيته، وأثَّرت عليه بقوة شخصيتها، وغذَّته بالحِنكة والدَّهاء، وقد تعرَّضت عُمان لكثير من الحروب والمحن أثناء وصايتها وحُكمها فصدَّتها بنجاح كبير، وأمسكتْ الأمور بقوَّة وحزم، إلى أن كبُر السيد سعيد، وسلَّمته مقاليد الحكم، وصار هذا الطفل الصغير هو السلطان الذي اتَّسع النفوذ العُماني في عهدِه إلى أقصَى مَداه؛ حيث امتدَّت الإمبراطورية العُمانية من بندر عباس على ضِفَاف الخليج العربي، إلى ميناء زنجبار على السَّاحل الشرقي لإفريقيا، إضافة إلى بعض الجزر الواقعة في منطقة الخليج، وبحر العرب، والمحيط الهندي، بما فيها أرخبيل جزر القمر.
- عائشة بنت راشد بن خصيب الريامي البهلوي، من ولاية بهلا، عاشتْ في عصر اليعاربة -أواخر القرن العاشر، وبداية القرن الحادي عشر الهجري- وقد اتصفتْ بالزهد والورع والتُّقى، وتتلمذتْ على يد كبار المشايخ والعلماء في عصرها، اشتهرتْ بقوَّة علمها وغزارة اطلاعها، وتبوَّأت مكانةً علميةً راسخة، تتَّضح من خلال نَعتها بالشيخة والعالمة والفقيهة، ذكرت بعضُ المصادر أنَّ مدينة بُهلا التي كانتْ تغص بالعلماء كان مرجعُها امرأة عمياء، هي الشيخة عائشة الريامية، التي قال عنها الشاعر الغشري:
هي امرأةٌ عمياءُ.. لكن بفضلها
توازنُ ألفاً من رجالٍ ضراغمِ
وبالإضافة إلى مكانتها العلمية، فقد كان لها دور سياسي عظيم، ذكَره عبدالله الطائي قائلا: “ولقد شاركتْ هذه العالمة الجليلة في توجيه الحُكم في عصر اليعاربة في عُمان؛ فبعد أنْ خَرَج سيف بن سلطان على أخيه الإمام بلعرب، طالباً توسيع النفوذ الخارجي، ومُطَاردة البرتغال، تمكَّن سيف من الاستيلاء على الحُكم بعد وفاة أخيه في الحصن الذي حُوْصِر فيه؛ فبُويع من قِبَل الكثيرين، إلا أنَّ عائشة بنت راشد رفضتْ مُبايعته، وأصرَّت على أن يلزم بيته أولاً، وأنْ يبتعدَ عن الحكم، ثمَّ ينظر في ذلك من قبل أولِي الرأي في البلاد، ولم يستَطِع سيف أنْ يُعَارِض هذه المرأة، فيحدث لعهده ثغرة بعدم انتخابه؛ فترك مقر الحكم فعلا، ولزم بيته يَوْمين، حتى أرسلت إليه، وناقشته بجانب جَماعة من أعيان البلاد في مُخَالفته لأخيه الذي كان يَرى قصر الاهتمام بإصلاح الداخل، ثم بايعته على أساسِ الجهاد والعمل على الإصلاح؛ وبذلك عادَ إلى مُمَارسة الحكم، وأَصْبح فيما بَعد في طليعة أئمة عُمان، حتى سُمِّي بقيد الأرض؛ لسِعَة نفوذه”.
- السيدة ميزون بنت أحمد بن علي المعشني -رحمها الله- أم صاحبِ الجَلالة السلطان قابوس بن سعيد -أمدَّ اللهُ في عمره- تعتبر هذه السيدة من أبرز الشخصيات النسائية التي قامتْ بدَوْر كبير في تَرْسِيخ حكم السلطان قابوس بن سعيد المعظم، وتشجيع المرأة العُمانية على المُسَاهَمة في بِناء الوطن، كانت السيدة ميزون سياسية من الطُّراز الأول، وقد تشرَّبت فنَّ السياسة وحنكتها ودربتها من زوجها السيد سعيد بن تيمور والد السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله- وقد جمعتنِي بالسيدة الجليلة عِدَّة مناسبات؛ أبرزها: عندما كانتْ تجمع النساء العُمانيات البارزات والمساهمات في بناء النهضة في حديقة القصر السلطاني ببيت البركة، كلَّ عام، ومن حِنْكَتها كانتْ تجمع كلَّ من له تأثير في التنمية آنذاك، من مديرات المدارس، ورئيسات الجمعيات النسائية، وزوجات الولاة، وزوجات السفراء العُمانيين، وكثير من النساء المتميِّزات في كافة الوظائف، تجمعهن في جَمْع كبير ومهيب، وتحثُّهن على العمل الجاد للنهوض بعُمان. وفي أحد اللقاءات المهمة، رافقتُ مع بعض القيادات العُمانية وفدًا من النساء البحرينيات المتميِّزات ثقافة وعلمًا؛ حيث التقَيْن السيدة ميزون في قصر الرباط بصلالة، وطرحتْ بعض أعضاء الوفد سؤالا سياسيُّا ظنته السائِلة أنَّه سؤالٌ صَعْب، عن العلاقة البريطانية-العُمانية، والقواعد في السلطنة، لكنَّ السيدة ميزون ناقشتْ الموضوع كأفضل استاذة في العلوم السياسية، وأسهبتْ في الشَّرح عن هذه العَلاقة التاريخية، والمعاهدات السياسيَّة بين دول الخليج عامَّة وبريطانيا، كان الوفدُ يصغي باندهاش شديد وهي تُفصِّل الأحداث: بتواريخها، وشخصياتها، وأماكنها، عندما خَرجنا حَرصتُ أنْ أكونَ آخر من يُسلِّم عليها، نظرتْ إليَّ بتلك النظرة التي تُجسِّد الثقة والشموخ، وابتسمتْ قائلة: “الشاعرة… سعيدة خاطر… أخبريهن عن تاريخ عُمان وأمجادها وشخصياتها”، وفهمتُ الرسالة.. في الباص، كانتْ النِّساء يُبدين شدة الاندهاش، ويتساءَلن: جلالتها خريجة أيِّ جامعة؟! قُلت: ألم تَسْمعنَها وهي تقول إنها تتلمذتْ سياسيًّا على يد السلطان سعيد بن تيمور -رحمه الله؟ قُلن: والله وَدِدنا لو الأرض انشقتْ وبلعَتنا، ولا تجرَّأنا على سؤالها! لقد أحرجنا أنفسنا، وتبيَّن لنا أنَّنا لا نفقه شيئا بالسياسة.
وفي يوم المرأة العُمانية، علينا أنْ نذكُر تلك الشخصية الرائعة التي كانتْ عَوْنًا كبيراً وملاذًا للمرأة العُمانية، فاتحةً قلبَها قبل أبواب بيتها للجميع.
أمَّا إذا بَحثنا عن المرأة العُمانية المثقَّفة الأديبة، فسيرفدنا التاريخُ بأسماءٍ؛ مِثل: هند بنت المهلب بن أبي صفرة العتكي الأزدي (102هـ)، وهي سيِّدة فاضلة، من النساء الشهيرات في أوائل القرن الثاني، وبنت القائد المهلب بن أبي صفرة (ت:82هـ). نشأتْ في بيت عزٍّ وشَرف، عُرِفت برجاحة عقلها، وفصَاحتها النادرة، وحِكمتها البالغة، ومَكارمها العالية. تزوَّجت بالحجاج بن يوسف الثقفي، ثم طلَّقها بعد أنْ قلب على آل المهلب ظَهْر المجن، وخاف على نفسه منها، ولها روايات طريفة تحكيها كُتب التراجم.
أخذتْ نصيبًا وافرًا من العِلم والرُّواية عن كِبار التابعين؛ فحدَّثت عن أبيها المهلَّب، والحسن البصري، وأبي الشعثاء جابر بن زيد... وغيرهم. ولها رُوَايات كثيرة في كُتب التاريخ والطبقات والفقه. وقيل انتقلتْ إلى عُمان، وعاشتْ بمدينة أدم، وأقامتْ بها مَسْجدًا، يُعرَف بمسجد المهلبية، قُرب محلة الجامع، وأوقفت عليه أموالًا.
- السيِّدة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان آل سعيد، وُلِدت في عُمان عام 1844م، من أمٍّ شركسية الأصل، ورحلتْ إلى زِنجبار في العام 1866م، وكان عُمرها آنذاك عشرين عاما، في حين أنَّ وفاتها كانت في العام 1922م، في حدود الثمانين من عُمرها، وهي صاحبة كتاب “مذكرات أميرة عربية”، والذي تُرجم إلى 6 لغات، وتعُود شهرتها الثقافية إلى أنَّها أول من كَتَب سيرة ذاتية في الوطن العربي من الرِّجال والنساء بمُوَاصفات السيرة الذاتية، وتُرجم كتابها إلى العربية من الإنجليزية، وصَدَر عن وزارة التراث القومي والثقافة، وليس صحيحًا أنَّ طه حسين في سيرته “الأيام” هو أوَّل من كَتَب السيرة من الكتُاب العرب، بل إنَّ سيرة السيدة سالمة تسبقه بكثير؛ إذ صدرتْ الطبعة الأصلية لكتاب سالمة باللغة الألمانية عام 1886م، وصدر “الأيام” -وهو كتابٌ يَحْكِي قصة حياة الأديب طه حسين في العام 1929م، أما كتاب “الساق على الساق” لأحمد فارس الشدياق -الذي صدر عام 1855م- واصفاً فيه أهم مراحل حياته منذ نشأته في قرية عشقوت بلبنان، مُرُوراً بأسفاره الكثيرة، فحقًّا هو أَسْبَق من كتاب السيِّدة سالمة، ويُعتبر من أهم الأعمال الأدبية العربية التي كُتبت خلال القرن التاسع عشر، وهو وإنْ صُنِّف من كتب السيرة الذاتية، لكن الكتاب بلغته الوصفية والبلاغية يهتمُّ ببلاغةٍ تبتعدُ كثيرًا عن فنية كِتابة السيرة الذاتية، وفق ما تُحدِّده عناصر السيرة.
- الشاعرة عائشة بيت عيسى بن صالح الحارثية: هي عائشة بنت الشيخ العلامة عيسى بن صالح الحارثي، وُلدت في أوائل القرن العشرين، عاشتْ في المضيرب بشرقية عُمان، في بيت عِلم وأدب، كتب عنها مُحمَّد بن راشد الخصيبي في كتابه “شقائق النعُمان”، ومن قصائدها الجميلة وصفها لرحلة الحج؛ تقول فيها:
وصلنا ضحىً أمَّ القُرى منبع الهدى…
فقرّتْ بها عيني وسُرَّ فؤاديا
وجئنا إلى البيت العتيق لعُمْرةٍ…
فكم من مُلَبٍّ كان لله داعيا
وكم طائفٍ بالبيت يرجو مثوبةً…
وكم وَجِلٍ من خشية الله باكيا
فطفنا به والعين جادت بدمعها…
وكان مُلِحّاً بالدعاء لسانيا
وللموضوع بقية …،
3,849 total views, 2 views today
Hits: 278