لؤي الجبوري .. معمار التمفصل
بين الفن والعمارة
معماري لا يمكنك حصره في الهندسة فحسب ، فهو إن أمسك الفرشاة رأيته فنانا تشكيليا، وإن أمسك القلم وجدته رسّاما للكاريكتير، وإن تحدّث أخذك نحو مدارس الفلسفة. متنوّع فيما يقدمه كتنوّع عمارته بين الإسلامية والكلاسيكية والحداثة وما بعدها.
الدكتور /لؤي بن علي الجبوري من مواليد محلة عراقية تسمى بالأحمدية في الموصل القديمة عام 1972م. تنقل بين سنجار والسليمانية وكربلاء ثم الموصل وبغداد في مدارسها الابتدائية والإعدادية، وأظهر في مرحلة مبكرة من حياته اهتماما بالفن والرسم. اكتشفت والدته موهبته وله من العمر سبعة أعوام؛ فسعت لتنمية حس الابداع لديه باقتناء علبة ألوان ساعدته على الرسم على نحو غير اعتيادي، ومن ثم ظهر استاذه في المرحلة الابتدائية الذي حرص على تنميته، ومن هناك بدأت رحلة ولعه بالفنون وكانت البداية الى عالم المعمار.
بين الفن والعمارة
لم يكن اختياره لدراسة العمارة صدفة كغيره الكثير من المعماريين الذين قاتدهم الأقدار والصدف لدراسة الهندسة المعمارية. كان متقصدا جدا في اختياره يقوده الولع بالفن والدهشة بالجماليات. رأى في العمارة تقاطعا بين عمل الفنان والمهندس. العمل الهندسي الانشائي المستوجب لحسابات رياضية وفيزيائية وبراعة لتنفيذ الهيكل، وذلك العمل المعماري المتمحور حول وظيفة المبنى ومعالجة الواجهات بما تحتويها من نوافذ وبروزات، تؤثر على سلوك الساكنين وراحتهم.
وفي خضم هذا التمازج بين الانشائي والمعماري، يرى الجبوري في العمارة منجزا فنيا ونحتيا كبيرا، يتعامل مع المباني كقطع فنية ذات قيمة عالية، تعكس الكلفة الباهظة التي ينفقها المُلّاك لبنائها. وبهذا يؤمن الجبوري أن كل عمل فني يفوق ما سبقه، فلا ينبغي تكرار أي تصميم أو التموضع في خانة محددة أو فكرة أحادية في التنفيذ. واليوم يحمل الجبوري في رصيده المعماري ما يتجاوز الفا وثلاثمائة مبنىً تنوعت بين المساكن والفلل الراقية والمدارس والمساجد والفنادق والمحلات التجارية.
يغلب طابع الحداثة على تصاميم الدكتور لؤي الجبوري، وهو من عشّاقها ليس لكوننا اليوم محاطين بأشكال الحداثة ومفاهيمها؛ بل لسهولة التنفيذ أيضا وعدم تكلفها بالزخارف كالعمارة الإسلامية والكلاسيكية. إلا أن ذلك الميل نحو الحداثة لا يمنعه من تقديم الطرز المعمارية الأخرى فهو يتقمص جميع الأدوار ويقدم العمارة التراثية والاسلامية بلمسة حداثوية، مضافا إليها عمارة ما بعد الحداثة التي يوظفها بشكل مبتكر في اتجاهات التصميم المعاصرة.
ويشبّه الدكتور لؤي المعماري الجيد بالشاعر البارع الذي يستطيع نظم الشعر بكل بحوره، أو بالمغني صاحب الحنجرة والطبقة التي ينتقل منها الى الطبقات الصوتية الأخرى بكل سلاسة. المعماري الجيد هو المعماري القادرعلى التنقل بين التوجهات التصميمية بكل كفاءة، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يقبل المعماري المعالجات السطحية كما هو الحاصل اليوم في الواقع المعماري العربي، حيث يقوم المصممون بلصق الأقواس وصبغها باللون الرملي، لتقديمها كعمارة تراثية، بينما هي في الواقع أبعد ما تكون عن جوهر العمارة. إن العمارة تستلزم تتبع ثقافة المهنة، والإنسجام فكريا وذهنيا مع أطروحات التاريخ، وتطور العمارة، ودون امتلاك هذه المعرفة لا يمكن إنتاج عمارة حقيقة وإنما عمارة أزيائية وديكور تجميلي للمباني ، وهو للأسف ما يشهده واقع عمارة اليوم وسبب تدهورها في ظل غياب ثقافة العمارة لدى المعماريين.
فلسفة التصميم
لكل معماري منهجه الخاص وهناك من يتأثر بالآخرين. تنشأ أجيال المعماريين مقلدة لكنها ما تلبث أن توجد خطها الخاص بها، وبصمتها الابداعية المميزة، وروحها الذاتية في الأعمال. المؤثر الأكبر الذي لا يتحاشاه أيُّ من معماريي الحداثة هو المعمار الفرنسي لي كوربزييه رائد الحداثة الذي دعا إلى البساطة في التصميم وتشكيل الفضاءات بخطوط قليلة، وهناك أيضا المعماري الألماني ميس فان دي روه . و لا يخفي الجبوري ولعه بالروائع الهندسية التي يصممها المعماري السويسري (ماريو بوتا ونظيره المكسيكي لوكريتا. ومن عمق فلسفة روّاد عمارة الحداثة ينتج عمارة ذات لمسة خاصة به تفرد بها عن غيره تميزت بالبساطة والجرأة بعمليات “التمفصل”.
ينتهج الجبوري أسلوبا مغايرا في التصميم مقارنة بغالبية المعماريين الذين يبدأون برسم الخطوط على ورقة بيضاء، ومن ثم ينتقلون إلى المرحلة التالية لرفع الكتل الثلاثية الأبعاد والارتفاعات، وبعد ذلك تثقيب الكتلة بالنوافذ والأبواب. إن أسلوب الجبوري التصميمي لا يبدأ من المساقط منفردة، بل بالتوازي مع البعد الثالث، فهو يتعامل مع المبنى كصندوق زجاجي شفاف، و من ثم يقوم بغلق مساحات منه بالكتل الصماء والأحجار على عكس الشائع. وبين تلكم المساحات يترك فراغات ينفذ من خلالها الضوء بأشكال فريدة، تخلق رونقا وسحرا داخل المبنى، وصولاً إلى الفضاءات العميقة داخل المبنى بأحجام متفاوتة وأشكال متنوعة بين الخطوط والثقوب والأشكال العضوية النباتية والمستوحاة من الأسماك والمضلعات. وتعتبر الخطوط الأفقية سمة خاصة تميز أعماله المعمارية بجانب الكتل والبروزات التكعيبية على واجهة المبنى، وبين تقاطعات هذه الكتل تتباين الألوان والأصباغ والمعالجات البصرية المدروسة. ينطوي هذا الأسلوب على فلسفة تصميمية مفادها أن العين تصطاد المكعبات داخل التمفصل، فهو مكعب صندوقي بتمفصل بين مكعبات أصغر حجما متداخلة بشكل بسيط ومعقد في ذات الوقت.
الجمال والوظيفية
ينتقد البعض أعمال الجبوري ويصفها بالمبالغة؛ لكونها تساوم الفن بالوظيفة والمضمون. يقول: “لست عاقاً للجانب الوظيفي من العمارة؛ فكفاءة المعماري من كفاءة الفضاء، وأنا مخلص لمهنتي كإخلاصي للفن”.
إنه يجمع بين الفن والوظيفة في جميع أعماله، ولا يضحي بواحد منهما، بل يحرص على التكامل بينها لإنتاج جمال وذوق فريد ، فهو في ذلك كمعماريي المدرسة التفكيكية ومن أشهرهم المهندسة العراقية (زها حديد) التي قدمت للانسانية أعمالا ثورية وذات قيمة مبتكرة، ولكنها في ذات الوقت أوجدت مساحات من الذوق لم تكن معروفة من قبل للناس. ويؤمن الجبوري أنه يطرق أبوابا جديدة للجمال وينقل من مستوى المساكن والبيوت إلى مرحلة ليست كالسائدة؛ تتميز بالجمالية وبالحلول الوظيفية المتتابعة في الفضاءات ومن ثم يقوم على تداخلها بشكل مفصلي ويراكب بين الكتل لينتج عملا فنيا حقيقيا وليس مجرد عمارة أزيائية.
تعدد الاهتمامات والمواهب
إلى جانب شخصية المعماري فهو أستاذ وباحث أكاديمي أنهى دراسته العليا في جامعة بغداد عام 2004 بحصوله على مؤهل الدكتوراه، ثم تنقّل بين الجامعات في العراق وسوريا، انتهاءاً بسلطنة عمان لتكون موطنه الثاني بعد العراق. يشعر أحيانا بالسخط والألم لأوضاع العراق فتتنفذ رسومات كاريكتيرية تحكي مصاب البلد الحزين. يتشكّل اخلاصه لمسقط رأسه العراق ولمسقط عاصمة السلطنة فيركّز في أبحاثه على تطوير حلول معمارية تناسب الأسرة العربية، يعرضها في المؤتمرات والمحافل البحثية، ولا يكتفي بالتنظير بل ينقلها إلى واقع العمل جامعا بين التنظير والتنفيذ. إنه يصمم ومن ثم يشاهد أعماله تتحول إلى واقع ويصحب طلبته إلى ميدان العمل؛ ليدمج التدريس بالعمل الميداني، ويوازن بين الجانبين النظري والمهني مما جعله صاحب صوت مسموع أكثر من الاكاديميين المنشغلين بالتنظير. وبقدر حرصه على التدريب على رأس العمل، فهو حريص على تلقين طلبته الطرز المعمارية من عصر الرومان، مرروا بالعصور الوسطية حتى الحداثة، متتبعا المدارس والتوجهات الفلسفية التراكمية، ومهتما بمبادئ العمارة الاسلامية التي تركز على النسيج العمراني والبيئة معتبرا إياها المرجع الأساس للمعماري العربي. يتبنى في ذلك بعض الرؤى الفلسفية في نقد التراث والواقع العربي، متأثرا بمحمد عابد الجابري ونصر حامد ابو زيد ممن حملوا مشاريع نهضوية لواقع الأمة العربية. ولا تضيع شخصيته كفنان في وسط هذه الأمواج؛ فتجد اللوحات الفنية حاضرة في العملية التدريسية، مستعرضا تلك الفنون المشحونة بالرومانسية والمأساوية؛ لتطوير ذائقة طلبته. ويعد الجبوري ملهميه في عالم الفن( (هنري مور) و (بابلوبيكاسو). الأخير لا يستطيع التخلص من “تكعيبيته” حيث روحه حاضرة بقوة في أعماله.
7,083 total views, 5 views today
Hits: 811