معرض “ضلال” يطرح أسئلة اختفاء الإنسان من الكون
سما عيسى – كاتب وناقد سينمائي
هَذِه تجربةٌ تكمُن جدتها -على الصَّعيد التشكيليٍّ العُمانيٍّ- في أنَّها تأتِي من ثقافةٍ نوعيَّة اكتسبها الفنان، والثقافة هُنَا هي المحرِّك الأساس في اختيار الثيمة، والدَّافِع للتشبُّث بالفن، كسلاحٍ يرفعُه الفنان أمام العالم.
يَطْرَح الفنانُ الأسئلة دون أدنَى مُحَاولة مِنه لتقديمِ إجابات عنها. الأسئلة هي التي ترتبطُ بفتح آفاق جديدة أمام المعرفة، هي التي تُمِيط اللثام عن التقوقع والهزيمة أمام مُوَاجهة العالم.
تِلك هي الأرضيَّة المشتركة التي وقف عليها الفنانون الأربعة معا: أرضية تنطلقُ منها التجربة، وإن ذهب كلٌّ في مساره؛ إلا أنَّ المسارات الأربعة المختلفة تبدو في النهاية رَوَافد لنهرٍ إبداعيٍّ واحدٍ اشتركَ الجميعُ في ارتياده.
الخلافُ فقط تحدَّد مثلما جاءَ في مُقدِّمة إيضاحية تواجهك أولا، قبل ابتدائك بالبحث والتأمُّل في تجارب المعرض المختلفة: “يطرح كلُّ فنان وجهَة نظره؛ من خلال تجربته الشخصية، ومُتابعته للأحداث المعاصرة، وقراءاته التاريخية للصِّراع الإنساني مع الوجود ومع ذاته”.
سماء تُمطر دمًا ورصاصًا
(حسن مير)
الأعمال التصويريَّة الأربعة التي تُقدِّمها تجربة حسن مير، مُضَافا إليها عملٌ تركيبيٌّ، جاءتْ لتحملُ إلينا دلالات فجائعية، وهي نتيجةُ اشتغال عميق للفنان مع ثيمة الطفولة خاصة؛ فمن يتحمَّل في النهاية نتائج الخراب الذي تُحدِثه الحُرُوب البشرية هم الأطفال: جُثثهم، وألعابهم، ودفاترهم، وحقائبهم المدرسية الممزَّقة، مُتناثِرة في أطلال دكتها الحروب.
الفنان لا يقفُ موقفَ الحِياد من الحروب وويلاتها، بل يُقدِّم إدانة حادَّة لكل من يتسبَّب ويُشَارك في إشعالها. قَدْر ما كانت الحروب قاسية ومُدمِّرة، جاءت الإدانة كذلك أيضًا، خاصة أنها جاءتْ بلسانِ الطفولة دون سواها. ليس جديدًا أن نلمِس لدى حسن مير هذه المحبَّة الفائقة للطفولة، بل أيضًا بأطلال الماضي. الفارِق هُنا عن تجاربه السَّابقة شكل توظيفها. التوظيف الذي كان وَلِعًا بذكريات طفولته بمطرح، توظِيف أطلال، ومزق أوراق وصورا قديمة، كانتْ تشده إلى الحنين. تأتِي هذه التجربة المُدهِشة مُختلفة كليًّا؛ الأطلال هُنا تقدِّم الموت، والطفولة الضحية الكبرى لحروب يرى الفنان عبثيَّتها. إشكالية الإنسان العربي المعاصر هي أنَّه بات يستقبل صور الموت والدمار، وجثث الأطفال العرب، دون أدنى رَدة فِعل عاطفية إيجابيَّة، وكأنَّه قد اعتادَ عليها، وأصبحت جزءًا من مُشَاهدَاته اليومية بالتلفاز، الفن هُنَا يقدِّم توثيقا مُرًّا لهذه المرحلة المأساوية من التاريخ العربي، المرحلة التي يَتَسَاوى فيها المَوت مع الحياة توثيقًا يُدِينها دُون شَك، مُنبِّها إلى ضرُورة تجاوزها، والذهاب إلى نقيضها، مُحتفيًا بالحياة الجديدة والبديلة للطفل العربي، حياة الطُّفولة وجمالها ومرحها، عِوَضًا عن هذا الموت المجاني القاسي، الذي مِثْلَما تنضَح به الصور مُدمِّر شَرِس لكلِّ ينابيع الحياة ومصادرها واستمراريتها.
يكتُب حسن مير تحت عنوان “متاهة”: “عندما نَرَى عدم الاتزان بين البشر، نُدرِك بشاعة الرحلة الإنسانية المليئة بالتناقضات والتراكمات التاريخية والدينية، والتي تقضِي على أبسط مُقوِّمات السعادة الإنسانية، وكأنَّ صِرَاع الإنسان مع نفسه متاهة كبرى، وهِي نتيجة حتميَّة لشعوره بالضَّعف والخوف”.
رهام نور:
”الإنسان مركز الكون”
تكمل الفنانة رهام نور الطريقَ الذي بَدأه حسن مير؛ مُتَّجِهة إلى الإنسان نفسه خالق الحروب ومُدمِّر الأرض؛ إذ الإنسان مركز الكون، نقطة الانطلاق التي مِنَها تشعُّ الحقائق وتتشوَّه في نفس الوقت، وما تُقدِّمه رهام هو التشوُّه؛ حيث إنه المرتبط عضويًّا بنتائج الحروب وويلاتها. وهي تعقدُ تلاقيًا فنيًّا خصبًا بين العيون والرصاص؛ إذ إنَّ كافة النظرات المتجهة نحو المركز الذي هو الإنسان بالطبع عبارة عن رَصاص ينتظر لحظة الانطلاق لتدمير الكون.
خاصَّة وأنَّ الكون الذي هو دائري مِثلما قدِّمته يحتلُّ الرصاص غلافه الخارجي؛ ثم العين البشرية في بياضها وبؤرة سوادها. هذه الرُّؤية للعالم، ترى الفنانة أنه يلزمنا لمعرفتها والوصول إلى حقيقتها عقول تتفتَّح على ما يدُور في الكَون. تُكذِّب الفنانة ما هو مطروح أمام الإنسان من تبريرات يُفسِّر بها تجار الحروب إبادتهم للحياة، وتقدِّم تفسيرها الإنساني الخصب؛ إذ الحروب مثلما كتبت “تجارة لا تشن من أجل الحرية، ولا من أجل الديمقراطية، ولا من أجل الدِّفاع عن حقوق الإنسان، ولا من أجل إنقاذ أي شخص آخر، رصاصة مُجمَّدة في الفضاء تُمثِّل التَّوْق لكلِّ هذه الأكاذيب”.
حَظِيت التجربة بتقديم الرَّصاصة كأداة للقتل والإبادة، وهي وإنْ كانت تُقدِّمها الفنانة في تماسٍ مع الدائرة، إلا أنَّها هي عين الإنسان إياه؛ والذي هو مركز الكون.. الإدانة إذن ليست للأداة، بل لصَانعها ومُستخدمها، وهو الإنسان. هكذا تجرِّد رهام تجربتها من أي طَرْح مباشر للتجربة؛ فالرصاصة المُجمَّدة في الهواء إنما هي بالأساس عيونٌ بشرية تحوَّلت إلى رصاص. العُيون التي عادةً نَرَى فيها لغة الحب، هي إياها العيون التي قدَّمتها رهام لنا رصاصًا للقتل والإبادة. الفن هنا يكشف زيف الادعاء وأكاذيب تجار الحروب.. حقا، بالقليل من الأدوات تتسع الرُّؤى، وتفتح التجربة لنا جميعًا أبوابَ أسئلةٍ لا تُطفِئها الإجابات السَّاذَجة أبدًا.
“الجاثوم” لرقيَّة عبدالله
عِوَضًا عن أيِّ معالم تنظر بها الفنانة إلى الخارج، تذهبُ رقية عبدالله إلى أعماق الإنسان، في رحلة استنطاقٍ مريرةٍ لأعماقه؛ التي تحملُ كميات هائلة من الفجائع والكوارث، هي المسؤولة عن حضوره ككائن مُشوَّه. لا يَعنِي ذلك بالطبع عدم تعاطفها مع العالم الخارجي، يَعنِي ارتباطها الجذري به.. هذه الكوابيس المُرَّة والمأساويَّة في نتائجها، إنَّما هي انعكاسٌ حيٌّ لمرارة الواقع البشري، والشر الذي يَمتلئ بفضائه. الإنسان مِثلمَا تُقدِّمه الفنانة ثمرة هذا الصراع في الوجود، الصراع بين الخير والشر، بين ما هو سري في الأعماق وما هو مُعلَن في الفضاء. تُدرِك الفنانة جيدًا انعكاسَ هذا الصِّراع عليها.. كتبت: “بين أنا وأنا الآخر صراع، كتمتُ سرِّي والآخر طليق”. وتُضيف كنتيجة لهذا الصراع: “هذا خَيْر في حدِّ ذاتِه؛ فالجاثوم لا يترُكك”. لا أودُّ قراءة تجربة رقية في اللاوعي الفردي، أودُّ قراءتها في اللاوعي الجمعي.. هذا الفارق الأساسي الذي افترق فيه كارل غوستاف يونج عن سيجموند فرويد، الرائديْن الأساسييْن لعلم النفس.
الكائنات المشوَّهة التي قدَّمتها رقية سوداوية مُخِيفة، هي الأعماق المأساوية التي تُكبِّلنا جميعًا وتحدُّ من انطلاق الرُّوح الإبداعية نحو فضاءات الإبداع اللامرئية أمام عيوننا، هذه الأشكال المشوَّهة بإتقان هي إيَّاها كارثة الواقع المرير المليء بضحايا الحروب، وقتلاها، ودمارها.. التشوُّه الذي لَحِق بِنَا، وأصاب أرواحنا وأجسادنا، وكأنَّنا جميعًا فقدنا أجملَ ما يُميِّزنا، ويُحَافِظ على وجودنا: البراءة، والطفولة التي في دَوَاخلنا نقيَّة من الرَّماد. تُقدِّم الفنانة مُحَاوَلة خروج مريرة للإنسان من هذا المأزق؛ الذي وَضعته الحَيَاة به. السجن هنا سجن الأعماق الذي يُكبِّل خروج الإنسان إلى الفضاء الطلق، وتجعلُه أسيرًا لا نهاية لأسره، إلا بتحرُّر أعماقه من الشرور، التي تُكبِّل كلَّ مصادر الخير، وحتى لا يخرج الإنسان إلى الحياة مشوَّها مِثلما قدَّمته رُقية في سينوغرافيا لا يسبر أغوارها ويكشف عُمق دلالاتها غَير رُؤى فنيَّة تمتازُ بروح إبداعية مُتميِّزة.
”رمال” لصفاء البلوشيَّة
تُقدِّم صفاء ثيمة الرمل، كمُعبِّر لنافي الولوج إلى أبواب الحقيقة التي تصلُ بها في النهاية إلى المرارة، التي وصلت إليها تجارب زملائها حسن ورهام ورقية. ولكن لأنَّ الرمل رمزٌ يرتبطُ بالخلق والموت في آن، يُؤدِّي ذلك بصفاء إلى طُرق أكثر تجريدية، وأقرب إلى الشاعرية، في غُمُوض دلالاتها منها إلى الإفصاح. تضعنا الفنانة وجهًا لوجه أمام الموت؛ إذ تظهر الإنسان محكومًا عليه بالحياة في صندوق أشبه بالتابوت، يظهر شبحان يُهِيلان التراب عليه، دون أدنى مقاومة تذكر، هي حياة الإنسان في العصر الحديث، المحكومة بقوَى خفيَّة تُمارس عليه قمعها جارة إياه إلى مصيره المُخيف؛ شاء ذلك أم أبى.
تُقدِّم صفاء الصَّحراء في بُعدها التراجيدي؛ إذ بها تُدفَن حياة الإنسان، ولا أمل له بالخروج عنها. بعيدة صَفاء عن الرُّؤى الاستشراقية التي تقدم الصحراء أرضًا للجمال والمُتعة، وإشباعا لهُواية ركوب الجمال؛ لأنَّ إنسان العصر الحديث الذي ننتمِي إليه جميعًا ليس أكثر من ضحية مأساوية، تنتظرُ الدَّفن وقوفا، فيما يُسمِّيه عرب الصحراء القدماء: الوأد، والذي كان يُمارَس ضد الإناث حال ولادتهن خوفًا من أن تجلب للقبيلة العار. هذه الثيمة تُسقطها صفاء على الحياة بأكملها، يظهر شَبَحان يُمثِّلان قوَى سوداوية تُهِيل التراب على المدفون حيًّا، والذي هو الإنسان المُحَاصَر من الجهات الأربعة، والمستسلم لقدره ونهايته.
الفنانة لا تَدَع أدنى فَاصِل بين الإنسان ومصيره، لا تلتزمُ بمُحدِّد توحيه التجربة لنا، التجربة مفتوحة للتأويل المتعدِّد، وللتأمُّل الروحي الخصب، تقفُ على الأرضيَّة المشتركة التي انطلقتْ منها تجارب حسن ورهام ورقية، مهما اختلفتْ وسائل التعبير عن الثيمة المشتركة؛ ثيمة انسحاقِ الإنسان وانكساره ويأسه وموته في حضارة لا تَرْحَم، قدمت نفسها بعكس ما هي عليه من شرور جاءت من الإنسان نفسه.
معرض “ضلال” يطرح علينا جميعًا أسئلته الوجودية الكبرى، أسئلة اختفاءِ الإنسان من الكون، أسئلة تشوُّهه، أسئلة ظَلَام الرُّوح في ليل الصحراء اللامتناهي.. أليس الفنُّ طرحا دائما لأسئلة الوجود الكبرى؟ نعم، هو كذلك.
التناقضات الحياتيَّة ومُسبِّبات الصراع الإنساني في معرض “ضلال”
افتُتِح معرض “ضلال” بصَالة ستال للفنون المعاصرة، التابع لمؤسَّسة السركال، بحضور عددٍ كبيرٍ من المُهتمِّين بالفنون الحديثة.. المعرضُ تمَّ التجهيز له قَبل عام، بمشاركة الفنان حَسن مير، والفنانة صَفَاء البلوشيَّة، ورقيِّة عبد المجيد، ورهام نور، وقد طَرَح كلُّ فنان وجهة نظره في أسباب التناقُضَات التي يعيشها الإنسان مع الوجود.
”ضلال” هو طرحٌ لسؤال وجودي عن أسباب صِرَاع الإنسان مع ذاته؛ نتيجة شعوره بصِرَاع عَمِيق مع الآخر، صراع نتج عنه شعُور مهيب حيال الكون. هي دائرة تَضِيق وتتَّسِع عِندما يتخلَّى الإنسان عن حقيقة وجوده وتمرُّده على قَدَرِه أو تفرُّدها على كل شيء بما فيه ذاته. يَطْرَح كلُّ فنان وجهة نظره؛ من خلال تجربته الشخصية، ومتابعته للأحداث المعاصرة، وقراءاته التاريخية للصراع الإنساني مع الوجود ومع ذاته.
وقدَّم الفنان حسن مير مجموعة من الأعمال المُركَّبة الفوتوغرافية بالحجم الكبير، مع استخدام إضاءة النيون لكِتابة مقطع مُستلهَم من قصيدة للشاعر سماء عيسى، بعنوان “متاهة”، وقد كتب الفنان في بيانه عن العمل الفني.
عندما تضيق بنا المساحات، ونتأمل الكَوْن، نُدرك أنَّ هناك أسبابًا لوجود الإنسان في الحياة، وعندما نَرَى التناقضات والفواجع نُدرِك أنَّها ضِد الاتزان الإنساني ونمط الحياة الاعتيادية. يستطيع الإنسان أن يتأمَّل قدره، ويتساءل عن سرِّ وجوده وموضعه في هذا الكون المؤقَّت: هل هي لامتحانه وترويعه، أم لسبب وجودي آخر؟ وعندما نرى عدم الاتزان بين البشر، نُدرك بشاعة الرحلة الإنسانية المليئة بالتناقضات والتراكمات التاريخية والدينية التي تقضي على أبسط مقوِّمات السعادة الإنسانية. وكان صِرَاع الإنسان مع نفسه مَتَاهة كبرى، وهي نتيجة حتميَّة لشعوره بالضعف والخوف: إنَّه يجهل وجوده والغاية منها، ويجهل لماذا وُجِد، ويشعر بضَعْف إزاء قوَّة خفية تتحكَّم بمصيره.
وقد قدَّمت الفنانه صفاء البلوشيَّة عملًا عن الصراع الذاتي، واستخدمت فيه الرمل والصُّور الفوتوغرافية والفيديو، وجسدت الصراع مع الذات والحياة.
وقدَّمت الفنانة رهام نور ثلاثة أعمال تتحدَّث عن الأطماع الإنسانية والحروب التي تُشن من أجل الحرية، وتقول: “الحرب هي تجارة، لا تُشَن من أجل الحرية، ولا من أجل الديمقراطية، ولا من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، ولا من أجل إنقاذ أي شخص”.
وقدَّمت الفنانة رقية عبد المجيد عملين بفن الفيديو والحديد؛ لترُسل رسالة عن صُعُوبة التحرُّر من الأحلام والكوابيس التي تأتي من حالة اللاوعي.
3,324 total views, 2 views today
Hits: 122