معرض قيثارة لون للفنانة التشكيلية سناء الحميدية
سما عيسى
ما تخلقه الألوان من عالم يختلط فيه السِّحر بالواقع، يجعل الرَّائي أكثرَ اقترابًا من وَدَاعة الحياة ومحبتها، إلا أنَّها في الوقت نفسه تجعله أكثر اقترابا من غموض الكون ومخافته؛ ذلك أنَّ الواقف هنا أمام تجربة التشكيلية العُمانية سناء الحميدية، يظل أسيرَ هذه الرؤى المتناقضة المتحدة في آن؛ ذلك ما يُعطي تجربتها الثراء الروحي الخصب، الذي تحمله في أعماقها هذه الفنانة، التي تَعِد بعطاء تشكيلي متميز، ابتداءً مع تجربتها الأولى: “قيثارة لون”، في معرضها الذي أقامته بقاعة رواق الفنون بالنادي الثقافي مؤخرا، والذي ضمَّ 20 لوحة تغذَّت من تمازج الألوان، وتناقضها وصفائها في آن. إضاءة لجمال الكون ونحن نَفْقِد وجوده وأثره الخلاق يوما بعد يوم، مُلتفتة إلى ألوان مدهشة في تلاقحها وتناسقها، واحتضان بعضها؛ فما يجمع النقائض أكثر مما يفرقها، كأنْ تضيء بقعة حمراء أرضا خضراء، أو تشكل ألوان داكنة سديم عالم غامض، اللوحة التي لا تفصح لنا عمَّا نود معرفته عبر اللون، فقط ليقودنا اللون إلى محبة الجمال؛ انتصارًا لوجوده في الكون، رغم كل العداء البشري الذي يواجه به يومًا بعد يوم. وفي ذلك، تتحدد تجربة سناء مع نظرة طفولية حالمة، قبل أن يعي الطفل تشوه الكائن البشري وتشوه أرضه الأم، كلاهما -الطفولة والفن- لتذكيرنا الدائم بضرورة استمرار الجمال؛ أي ضرورة تجدد الحياة به، لكي يبقى أي الجمال عنصرا مضادا للقبح والعداء والزيف، سلاح تشهره الفنانة في وجه الهدم، وذرات الحب الذي تغتسل به الأرض من ذرات الرماد المتراكم في الشوارع والقلوب والفضاء. ما تقدمه الفنانة إذن على غرار ما تقدمه كل تجربة فنية أصيلة، بقدر رحيلها الجمالي الأخاذ، قدر ما ترتبط بالواقع الإنساني، الذي هو دومًا بحاجة إلى الجمال الحقيقي؛ كي تعود إليه روح المحبة، ويسود الجوهر الإنساني الدافع لاستمرارية الحياة وديمومتها، ترحل بِنَا إلى هجران عالم الخرسانات والأسمنت والحديد العودة إلى طفولة الكون المفقودة، إلى براءته الأولى؛ ذلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا باختراق حاد للمرئي أمامنا والرحيل إلى سديم غامض تهدأ فيه الأرواح، متأملة عصف الرياح وهدير الموج وتعاقب الفصول.
ما نلمسه في اللوحات الخمس؛ التي حظيت بها المرأة حضورا عن غيرها، فضلا عن جانبها الطفولي الريفي العُماني، أسطوريتها. حرصتْ سناء على تقديمها كطيف هادئ، أتى عابرا صامتا منذّرا بالأفول، ليس ثمة ملامح واضحة محددة للمرأة تؤكد أنثويتها إنما لتؤكد غيابها في الرحيل، مُتحدة مع أشكال هندسية من التراث الشرقي حضورها الأنثوي يقترب من الأمومة ونعومة الريف مكملة بذلك -أي الأنثى- مسار تجربة تقترب من الصمت الروحي الذي يخلقه جمال الألوان وحضور بهائها.
على أن استعانتها بجماليات الحرف العربي، إنما لتضفي تجسيدا لجمال الألوان التجريدي، وما يفتحه ذلك من آفاق لخيال لا يهدف الحرف للحد منه، قدر ما يشارك في رحلة غموضه اللامتناهية، والتي تظل بعيدة عن أن تسلك طُرقا ومسارات، تحدِّدها سلفا رغبات الفهم المحدود، لما يكتنزه الخيال في رحلته الإشراقية، نحو عالم لم تنيره بَعْد خُطوات الكائن البشري.
هكذا لا تكون اللوحة بحاجة إلى ما يقدمها ويشرحها، تقدم التجربة نفسها عبر لغة الحب المشترك بينها والمتلقي، الحب الذي لا يسعى لمعرفة دروب الشرح المسبق؛ لأننا هنا أمام فضاء رحب لا تقيده تأويلات الفهم البشري، مهما كان التأويل محاولة جادة للفهم، إلا أن الجمال أبعد من أن يتم تأويله وتحديده، خُلق لعالم لا نراه ونحلم بالرحيل إليه، ربما رحل العالم وتركنا، أو تركنا العالم ورحلنا. وكمن يقف في أطراف الأرض مبصرا الآفاق البعيدة، تقف سناء الحميدية أمامها غموض غير مرئي، تجربتها لا تطمح إلى فض واستكناه معانيه، تبقيه غامضا هادئا جياشا بالعاطفة المفقودة حتما، مُعتمدة على الصمت الذي تسكبه اللوحة في فضاء الجمال، بعيدا عن أرض لوَّثتها وأتت على بقاياها كوارث الحروب البشرية، السائرة بالكون وما عليه نحو الحتف.
في تجربة اعتمدتْ كليًّا على حركة الألوان، على خلقها لتكون أبعد من المرئي، أكثر انسياقا في الحلم، سَيرًا حثيثا نحو أكوان خارج الوعي البشري الذي يحيطنا بمحدودية رؤاه، وصولا إلى اللامرئي، عندما تكون الحياة مضاءة بألوان الخلق الأولى، ناشرة ضياءها الخلاق، أبعد من حدود الزمان والمكان، الواقفة عليهما أجسادنا ومراراتنا.
—————————————
سناء الحميدي ، بدأت علاقتها مع الفن منذ طفولتها، أحبت الرسم والتصميم والتشكيل الهندسي.عضوة في جمعية الفنون التشكيلية وعضوة في مرسم الشباب وفي مجلس ادارة جمعية المرأة بمسقط.شاركت في عدة معارض خارج وداخل السلطنة، وحصلت على عدة جوائز تقديرا لأدائها الفني المتميز . طموحها توصيل رسالة تراث الفن العماني وتاريخه والجوانب الفنية إلى كلّ بلدان العالم.
تقول سناء الحميدي: “يُعتَبرُ الفنان سفيرا لبلده ينقل رسائل ملونة تحتوي على مضامين كبيرة بحجم ما يحتويه داخله من همّ وحزن وفرحٍ ومسافات شاسعة محملةٍ بالضوء وبالفكر الذي يكون معبراً عما يصطبغ به المجتمع ويسجل التاريخ والحِقبة الزمنية التي يعيش فيها الفنان من أحداث وتطورات ينقلها إلى أبعد مدى. الفن رسالة إنسانيـة واجتماعية، له دور كبير ومهم في تواصل الدول، والتعريف بثقافات شعوبها وتراثها وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية، وبناء جسور للسلام، والتعارف بين المجتمعات دون الالتفات أو التمييز بين عرق ولون أو لغة” .
6,649 total views, 2 views today
Hits: 678