محاور مع أدونيس
“الإنسان هو سيِّد العالم، لكنَّ هذا السيِّد، فيه الوجهان: الوجه الملائكي، والشيطاني في آن واحد.. هو سيد العالم، لكنَّه عبوديته في الوقت نفسه“. أدوني
على ضِفَّتي الأدب والفلسفة، انسابتْ التساؤلات، لتُشكِّل في قِيعَان الطرح مَنَاظيرَ فاحِصة لقضايا تمسُّ الإنسان وجماليات الإبداع، مُعرِّجة على صَخَب ما يَمُور من أحداثٍ، مُفنِّدة ومشخِّصة بجُرءة، وأناقةٍ لُغوية معهُودة، ورؤية تحملُ أبعادًا فلسفيَّة جدلية، وحنينٍ لم يَضِلُّ طريقَه نحو ينابيع تنضحُ بالعُمقِ والموضوعيَّة، اتَّسمت بها إجابات المفكر والأديب والشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر، الملقب بـ”أدونيس” في لقاءٍ انفتحتْ فيه كل الأشرعة على بَحرٍ لُجيٍّ من الأفكار، غيَّرت مجرى التَّرتيبات، لتضَع دَفَّة الحوار بين يدي العفوية والتلقائيَّة في طرح التساؤلات، لترسُو في الأخير على ضفاف فلوَّات المعرفة.
– شرق غرب –
كأيقونة على الساحة الشعرية العربية اليوم.. دعنا نبدأ تساؤلنا عن مَنْ أثَّر فَنيًّا في أدونيس؟
لديَّ نبعان استقيت منهما التجربة، أولهما: الشعر العربي، بداية من امرؤ القيس وطرفة بن العبد، مرورا بذي الرمة وبشار ابن برد، وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي والمعري. والمنبع الثاني: هو المنبع النقدي التحولي الغربي، بدءًا من هيراكليت، الذي قال: ”لن تعبر النهر مرتين”، مرورا بنيتش الذي نَقَد الفكر المسيحي كما لم ينقُده أحد، وهايدكي الذي نقل الصناعة التقنية الحديثة.
تحفظُ الذَّاكرة لعَنترة بن شداد مضمونًا بليغًا لشطرٍ يقول فيه: ”هل غَادَر الشُّعراء من مُترنمِ”.. يضعُنا أمام تَسَاؤل عن واقع الحالة الشعرية العربية اليوم، ومأزق الكم في مقابل الإبداع؟ وهل يُواجه سيد الفنون في رونقه مأزقًا يقوده للانغلاق على نفسه؟
الشاعر -أي شاعر- هو بمثابة أداة فنية تُوجِد علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء، كسبيل تُؤدِّي بالنهاية لخلق علاقات جديدة بين القارئ والعالم.. واليوم وعلى مستوى الإبداع البحت، للأسف الشديد نعاني بشكل كبير من عدم وجود هذه الوظيفة الفنية في معظم المنتوجات الشعرية. دعني أدلل لك على ذلك بمثال: إذا قلت لك إنَّ الناس في صورة التشبيه أكفاء، أبوهم آدم والأم حواء، كشاعر ماذا أقول؟ أنا أنظِّم فكرة شائعة في المجتمع، وأعيدها إليهم بصيغة أخرى، لكن ماذا أقدم على الصعيد المعرفي، وماذا أقدم على صعيد الجماهير، لا أقدم شيئاً، وهذا هو الإشكال الآني في الإنتاجات الشعرية اليوم، وهذا نوع من المشتركات العامة ليس في العالم العربي فقط، وإنما في كل المجتمعات، وهي معضلة لا تقدِّم، بل بالعكس تؤخر، وتؤخر كثيرًا.
فالمعنى أفقٌ لا يُلمس، أفق تنطلق فيه، وهذه أهمية الشعر؛ حتى إنَّ العرب قديمًا كانت تقول “الشعر هو أن يشعر الشاعر بما لا يشعر به غيره” ، فكما هناك اختلاف في البُنى الجسدية لبني البشر وأحلامهم، كذلك المخيلات تختلف، وهذا تميُّز وتفرُّد تنبثق منه الذائقة الشعر، فإذا الشاعر نقل للقارئ ما يعرفه مسبقًا؛ فإنه حينها يؤدي وظفية تشبه الوظيفة الإعلامية وليست الوظيفة الفنية.. وهو حديثٌ خاصٌّ جدًّا عن المسألة الفنية البحتة، فحسب التقاليد العربية المتفق عليها، ترتبط الفنون بالحاجات العامة، ترتبط بقضايا الإنسان، وهمومه اليومية، ساعد على ذلك الارتياح النفسي الذي يشعر به المتلقى إذ قُدِّمت له همومه بشكل فني بديع فيستعذبها، كأن يستذكر أحدهم أو يُلقي السمع لبيت المتنبي مثلا: “على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وتأتي على قدر الكرام المكارم” ، للحظة تجده يسند الظهر وتهتز الرأس وتخرج زفراته تعبيرًا عن سعادة داخلية تحيل همومه إلى ما يُشبه البلسم الشافي، وهذا ما عنيته في مقدمة الإجابة عن هذا السؤال بأنَّ للشعر فاعلية كبيرة.. فحتى نبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله تعالى عنه: ”وما علمناه الشعر وما ينبغي له ،”أشاد ببيت لبيد: ”ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكل نعيم لا محالة زائل” ، كما أُثر عنه أنه دعا حسان بن ثابت لهجاء الكفار، ومدح المؤمنين. وهذا تدليلٌ على أنَّ الشعر خصوصا والفن بشكل عام هو وسيلة اتصال وتواصل بين الجميع إذا ما حيكت مفرداته وأوزانه بإتقان، يعيد إنتاج الموجود دون نقل التجربة كما هي.
ومن طرائف شعرائنا القدامى في هذا الخصوص، حادثة شهيرة لأبي تمام، بينما كان يقرأ شعرًا، ووصل إلى: “لا تسقني ماء الملام فإنني .. قد استعذبتُ ماء بكائي” ، فإذا بأحد الحضور يأخذ كأسًا أمام الناس، ويقول: ”أريد أن تُعطينا قطرة من ماء الملام” ، تطلع فيه أبو تمام حينها، وقال: “إذا أعطيتني ريشةً من جناح الذُّل فسوف أعطيك قطرة من ماء الملام” ((وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة))، فمثل هذا الاتجاه الذي يمثله أبو تمام أوجَد علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء، لتُنتج معاني جديدة.
وكيف ينظر أدونيس للوجهَة التي يُولِّيها شعراء اليوم شطر الاقتباس والتأثر بما يُنتجه الغرب شعريًّا؟
هذا توجُّه شخصيًّا لا يروقني، فأصلُ الشعر في العرب؛ لذا فما يُثير الاندهاش والاستغراب أن نلحظ هذا التأثر بالغرب شعريًّا، والتأثُّر بشكل خاص بما يُطلق عليه الحركة السريالية، والتي صحيح حرَّكت الفكر لكنها لم تحرك ساكنًا للشعر. وأذكر في أحد اللقاءات، كان لي تعليق على هذا التوجُّه، وهو أنَّه وفي إطار العلاقة بين الشعر العربي والأوروبي إجمالا، وجدتني أستحضرُ “التصوُّف” وناديتُ حينها بدلا من أن يذهب الشاعر العربي ليتأثر بالسريالية، من الأولى والمستحسن أن يقرأ أولاً التصوُّف، صحيح أنَّ السريالية ضد التصوُّف، لكنْ هناك منهج تم في التصوُّف يُشبه إلى حد كبير ما قام به السرياليون، وذكَّرتُ شعراءنا وقتها بأنه من الأفضل في المقام الأول أن يقرأوا شعرهم وتراثهم، ثم يقرأوا بعد ذلك ما شاءوا.
وكما ذكرت في خصوص المعنى، ووظيفة الشعر الفنية، أعود لأكرر بأنَّ الأجدر بالشاعر ابتداءً تدارس واستخدام لغته، فاللغة اليوم باتت قضية شعرية بحد ذاتها.
الصوفية.. طريقة حياة
أدونيس، في صغرك كان لوالدك تأثير على ارتباطك بالفكر الصوفي؟ إلى أين وصلت هذه الصوفية الآن بحياتك؟
الصوفية بالنسبة لي طريقة حياة، وليست طريقة تدين، الطريق إلى معرفة من أنا، لكي أزداد معرفة بالآخر، مُتحرِّرًا في سبيل ذلك من كل ما أعده قيدًا، فأنا أناقش أفكارًا لا أشخاصًا، وأحترم الأشخاص أيًّا ما كانوا، وأيا ما كانت معتقداتهم.
وفي رأيي أنَّ أكبر مُشكل يواجه الإنسانية اليوم هو عدم معرفة الإنسان بمهمته الأساسية في هذا الكون، ومن لم يعرف نفسه لا يُمكن أن يعرف الآخر فضلا عن أن يتقبله، وهذا سبب كل الصراعات الحاصلة اليوم.
على ذكر الصراعات الحاصلة اليوم، أذكُر لكم تعليقًا على مبدأ التسامح في أحد الحوارات وصفتموه بأنه لا يخلو من العنصرية، وطرحتم بمقابلة مبدأ المساواة، وكأنكم قُلتم إنَّ هذه المساواة تتحقق في مجتمع مدني يحكمه القانون.. هلَّا أوضحتم عند أي مجتمع يحكمه القانون من الممكن أن تتحقق هذه المساواة؟
أي فكرة من النادر أن تُطبَّق كاملة في كل التاريخ، حتى في شرعنا الحنيف، المُثل والأهداف، وما يُدعى إليه، لا يُطبَّق تماما؛ ففي كل المجتمعات هناك فجوة بين ما هو نظري وما هو تطبيق عملي، ليبقى الفارق الوحيد قائمًا على أساس القوانين، التي تقوِّم العلاقات بين الأفراد أنفسهم، وبين الأفراد والسلطة، على أساس تعاقد موضوعي لا على أساس ديني أو مذهبي أو قَبَلي؛ فهذه الأسس بطبيعتها تجزئة للمجتمع، لا سيما وأنَّ كل شيء شخصي هو فردي بالأصل. وهذا يقود لحديث أكثر خصوصية عن معضلة نشر مظلة التسامح فوق عالم منهك بالصراعات والاحتراب والتحزبات والأيديولوجيات المعقَّدة، فمما يتضاد مع المنطق والعقل فكرة القبول بـ”داعش” مثلا إلى الآن، فأنت صحيح تسمع عن إدانات وشجب ورفض، ولكن لا تجد تحركًا واحدًا لاستئصال شأفة هذا الشيء المسمَّى زورًا “تنظيم الدولة”، وبلا شك، أنَّ الصمت على مثل هذه الأعمال هو في مستوى الجرائم الإنسانية بل أخطر، جريمة تمس أسس واستقرار المجتمعات، وتحتقر قيم الإنسانية وكل ما هو إنساني.. وهي وقائع تفعل في اللا شعور، تؤول اليوم للقول وبملء الفم بأنَّ المجتمع العربي في أساسه مُتفكك، لا يوجد مجتمع عربي واحد، تجمعه قوى التلاحم العميق على الإطلاق؛ تجمعه ثقافة شكلية لا قيمة لها، وهي الثقافة المرتبطة بالسلطة، وهو مدخل آخر أراه سببًا في عدم وجود حريات أو مبدعين بنفس ما كان عليه الماضي من أسماء رنانة، فالحرية هي ما يجعلك تغامر، وكم مِمَّن قُتِل لأجل فكرة قالها بقصيدة أو برواية، أو سُجن لفكرة طرحها في مقالة.. وهو امتداد لتاريخ سيء قامت من أجله انتفاضات وثورات ورفض واسع، لكنه للأسف يعود للسطح مجددًا.
إذن، في رأيكم من يَحكُم: القانون أم الإيمان؟
الإيمان من وجهة نظري، هو الفقة والشرع، بتطبيقاتهما العملية في إقامة الشعائر، ويُحسب للمتصوفة أنهم غيَّروا النظرة الأساسية للمؤمن، غيروا مفهوم العلاقة بين الله والإنسان، غيروا مفهوم الهُوية، مفهوم الآخر.. أما التاريخ الحالي للعرب والمسلمين خصوصًا، ففي رأيي تاريخ كتبته السُّلَط -جمع سُلطة- المتعاقبة، وهو تاريخ يجب إعادة النظر فيه كليًّا.
النصوص المقدسة
وهل الإشكال في الفهم الخاطئ للنصوص الدينية؟
كل النصوص المقدَّسة، سواءً في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، تأخذ مستواها وأهميتها من العقل الذي يَقرأ، إذا كان عقلًا عظيمًا فإنه يستنبط من النص معنىً عظيمًا، والعكس؛ فالنص تابعٌ للقراءة.. فأيُّ نص في العالم يُمكن أن يُقرأ بأشكال مختلفة، ما حدث للعرب اليوم، هو أنَّ النص الإسلامي قُرئ سلطويًّا، وارتبط -بفعل من أُطلق علهيم شيوخ السلاطين- ارتباطاً عُضويا بالسلطة، وكل من كان يقرأه قراءة مختلفة كان يقمع ويقتل. وهذا يعود بنا مرة أخرى لما فعلته وتفعله جماعة ”داعش” وهذا ما صمتنا عليه.
لكنَّ “داعش” صناعة غربيَّة، صحيح أنها استعملتْ الدين كقناع للترويج لنفسها وبناء قاعدة لها على الأرض، إلا أنَّ الأساس دعم غربي؟
هناك تناقضات تحكم العلاقات العربية الغربية، هناك لا شعور لدى الغرب بالثأر من المسلمين، ولكي نفهم لماذا يأخذ الغرب هذا الموقف من العرب، علينا العودة للتاريخ، في بعض فترات الظلم العربي، لندرس ماذا فعلنا نحن بالغرب أولاً، كل هذا الصراع يجب أن يكون مستقلا، ويُبحث على حدة.
اذن أنتم تعترفون بوجود المتناقضات الكثيرة؟
بالتأكيد، تفسُّخ، تناقض إلى درجة تدعو للدراسة بشكل معمق، والحل في دراسة متأنية للوضع، شرط أن لا نقرأ ونقول أفكارنا فقط، وإنما أن نُدخل ما توصلنا إليه في بِنية المجتمعات الثقافية، وأن تُعد جزءًا منها، وبالمناسبة، أساس أي بنية ثقافية اجتماعية يجب أن تتكوَّن من عناصر مختلفة ولو كانت مُتضادة، لكن كل عنصر يعترف بالآخر، بأنه جزء مكوِّن لهذه الثقافة، وهذا للأسف الشديد غير موجود اليوم.
قراءة جديدة للدين
الكثير اليوم ينادون بتجديد الخطاب الديني وتطوير...!
مقاطعًا بلُطف: عفوا.. أي محاولة للتجديد لن تُجدي ما لم تتم قراءة النصوص الدينية قراءة جديدة؛ بحيث يتم الفصل فصلاً كاملاً بين ما هو ديني نحترمه ونقدسه وندافع عنه، وما هو سياسي ثقافي اجتماعي من جهة ثانية.. فكل ما سياسي وثقافي واجتماعي مُشترك بين المواطنين جميعاً بالتساوي، وليس بالتسامح، والدين بالأول والأخير علاقة بين الإنسان وخالقه.
وأؤكد هنا على أنَّ المجتمع لا يتغيَّر بكثرة أفراده المتعلمين ولا النابغة المتفوقين، لا يتغير إلا إذا تغيرت مؤسساته وتغيرت بنية السُّلطة فيه، حين ذاك يتغير المجتمع؛ لذلك التشديد على المجتمع، نحن نشدِّد على ما هو سائد، فالحكم على ما يتعلق بالإسلام لا يتعلق بالحكم على الإسلام في ذاته، وإنما على ما هو سائد، على الإسلام السائد، هذا هو سوء التفاهم.
وهل من هذا المنظور يُمكن اعتبار ذلك سببًا لتشجيعكم يومًا بعضَ من رفعوا شعار الإلحاد؟
لم يكن هذا القصد بكل تأكيد، وشخصيًّا يُشاع عني أني ضد الدين، لم أكن ضد الدين في حياتي، وأنا أشرت إلى ذلك حتى من أيام الثابت والمتحول، لا أبحث في الدين في ذاته، وإنما أبحث فيه بوصفه مؤسسات وممارسات، ومع ذلك مع الأسف لم يرد أحد أن يفهم ذلك.
وأضرب لك مثالا هنا بابن تيمية، فابن تيمية يجب أن نقرأه، لا أن نرفضه بالشكل الممارس الآن، يجب أن نقرأ لنفهم لماذا العداء الفكري معه، إذ لا يُمكن معاداة شخص إذا جَهلناه وجهلنا فكره. مثلاً كيف أتكلم بإيجابية عن ابن تيمية؟ كيف أتكلم عن محمد بن عبد الوهاب؟ كيف يمكن أن تنقد محمد عبد الوهاب، لذا يجب أن يُقرآ ويُدرسا لتحقيق الموضوعية في الطرح والاختلاف.
مثار الاندهاش
إذن، هل من وصفة علاج ناجعة؟
لا يُمكنني الادعاء بأن لدى أحدٌ بعينه الحل، وإنما ما أعرفه وأعتقده يقيناً أنَّنا في رحلة العودة للمجتمع الواحد، والمواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، علينا أن نُعيد التفكير في المنظومة التي نعيش بها بشكل كامل، أما أن نظل في مجتمعات فيها فئات معينة هي التي لها الحق الكامل لتكبيل حريات الناس، فإنَّ كل القيم والمثل وحتى الأديان ستموت وستُصبح مجرد أداة للسلطات، وهو ما يؤشرعليه الواقع اليوم.
وهي مناسبة تجعلك تبدي اندهاشا: أيُعقل أننا كمليار ونصف المليار مسلم حول العالم، بما يعني ربع البشرية، لا يوجد بيننا مفكر واحد، مفكر يُمكن وصفه بأنه امتداد لابن رشد مثلا.. نحن العرب، لدينا إشكال كبير جدًّا؛ ألا وهو عدم الإيمان بالأفراد، بالمجتمعات، لم يُذكر المجتمع العربي يومًا في أي بيان على أساس أنه هو القضية، الكل يدور حول صراع بين من هو في السلطة، ومن يريد أن يحل محله، وعلى هذه المقصلة ذُبحت الإنسانية.
البعض يتحدث عن مناداة أدونيس الدائمة بفصل الدين عن السياسة، كيف الطريق إلى تحقق ذلك في رأيك؟
العلمنة اليوم هي وحدها التي تعطي الدين مكانته الحقيقية، وتحرِّره من التجارة والاقتصاد والسياسة. الدين هو أعمق ما يرى الإنسان، ولا يُمكن أن يكون أداةً للتقييد أو القمع والهيمنة، ومن هنا تنشأ الحاجة لتحرير الدين من كل هذا.. ولنا العبرة في التجربة الكَنَسيَّة وسيطرتها في العصور الوسطى على المجتمعات والعقول والناس، ولكن الأهم كيف استطاع هؤلاء الغربيون أن يفصلوا بين السلطة والكنسية والشعب، هذا ما يجب اليوم أن تُعاد دراسته بشكل أعمق.
الإلحاح والغموض
إذا وضعنا أمامنا درجة الدكتوراه التي حصدها أدونيس في الفلسفة، هل لنا أن نسألكم رؤيتكم لأبعادها اليوم؟ وكيف تنظرون إليها؟
ما دامت هناك أسئلة تفرضها طبيعة الحياة، والمتغيرات، والمشكلات والقضايا والهموم المطروحة، ستظل الفلسفة موجودة.. فعندما تنتهي الأسئلة تنتهي الفلسفة، ولن تنتهي الأسئلة، بل ستزدادُ إلحاحاً في المستقبل، وبالمقابل ستزداد الأجوبة غموضاً أيضًا؛ لذلك ستستمر الأسئلة، وفي جميع الحالات قوة الإنسان الحقيقية ليست في إعطاء الأجوبة، القوة الحقيقية هي في طرح الأسئلة؛ لأنَّ الكائن الوحيد القادر على طرح التساؤلات هو الإنسان.
وإذا سألنا أدونيس عن وحدة الوجود، كيف يراها؟
كل ما له علاقة بالغيب لا يُمكن أن يكون جمعيًّا، فكلانا مثلا ينظر لشيء واحد بنظرة مغايرة، ترى الطبيعة من منظور معين لا أراها أنا من خلاله، تنظر لنفسك بصورة لا يراك بها أحد غيرك، وكذلك الأمر، حينما تنظر إلى الفضاء تنظر بعينين لك وحدك، لا علاقة لي بما تراه مطلقا، فكلُّ ما هو سري وعظيم وغامض، يجب أن يظل فرديًّا، وكل ما هو قانون ومجتمع وحياة يومية لابد أن يكون مُشتَرَكًا؛ لذلك أعظم موقف للدين هو تحرير الدين، وأن يظل علاقة عظيمة بين الإنسان والخالق.
وهل على هكذا أساس يُمكننا أن ننظر للقائك بعض الكتاب والمفكرين الإسرائيليين، وما أثير حولها؟
إذا قلت لك إنَّ هناك إسرائيلين يناصرون الفلسطينيين أكثر من أي عربي، هل تجلس معهم أم لا تجلس؟ علينا للأسف أن نعترف بأنَّ هناك يهودا إسرائيليين يناصرون القضية الفلسطينية أكثر مما يناصروهم العرب.. إذن فلمَ الدهشة حينما تجالس أحدهم وهو مفكر أو فيلسوف أو شاعر؟ لماذا الظن دائمًا بأنه هو من سيأخذني إليه؟ لماذا لا يُظَنُّ أنني سأجلبه إلي؟ لماذا العربي متهم سلفا بأنه يذهب إلى العدو؟ لماذا لا يُقال أنني أجلبه نحوي، أفهمه قضيتي ومنطقي.. لماذا لا يُفترض العكس؟ كما أنَّني أؤمن تمامًا بأنَّ الأفراد شيء، والسلطات شيء آخر، السلطات تتغيَّر ولكنَّ الشعوب باقية ولا تجوز المماهاة بين السلطة والشعب.
لكلِّ حديثٍ محطة وصول.. وكضيفٍ عزيزٍ على السلطنة، وددتُ لو سألتك عن رؤيتك لدبلوماسية الحياد التي تتعامل بها عُمان مع مستجدات الواقع من حولنا؟
أكنُّ تقديرًا بالغًا للسلطنة شعبًا وقيادة، ولكم سرَّني قراءة موقف السلطنة من قرار المُتهوِّر ترامب بضمِّ القدس المحتلة إلى إسرائيل، فلكم كان موقفًا مشرفًا لكل العرب، رأيته شخصيًّا أكثر قوة من بيان الجامعة العربية، ومن بيانات بعض الدول العربية التي أعلنت موقفها وقتها، وهو امتداد للمواقف الدولية المشرفة للسلطنة عموما على امتداد العهد الزاهر لجلالة السلطان قابوس بن سعيد، كما في موقفها من قضية الجولان، واليمن…وغيرهما الكثير، لذلك لم أكن مندهشا من قوة موقفها إزاء قرار متهور كهذا.
4,354 total views, 2 views today
Hits: 235