مطرح الستينيات وكلمة السلطان سعيد بن تيمور .. في ذاكرة التاريخ
د. علي مُحمَّد سلطان الزعابي
المحطة الأولى: العلاقة المتأصلة ببريطانيا العظمى
بدأتْ كلمة السلطان سعيد بن تيمور، والتي ألقاها في يناير من العام 1968م، عن حقبة والده السلطان تيمور بن فيصل؛ فقد جاء فيها أنه كان قد ورث عن حكومة سلفه ديونا كثيرة، فوجد أمامه حكومة مثقلة بالديون مستحقَّة التسديد لتجار البلاد، وقد استمرَّت الحال على ما كانت عليه، والديون آخذة في الازدياد حتى العام 1920؛ حيث رأى أنه ليس من السهل إدارة دفة الحكم ومالية الحكومة على ما هي عليه من عجز وانحلال، عندها قرَّر المبادرة لتحسين الحالة المالية للحكومة، بإدخال الأنظمة الحديثة لإصلاحها. وأخيرا، اتضح أنَّ حكومته لا تستطيع السير قدما بخطى واسعة وراء أي إصلاح منشود، قبل أن تتخلص من تلك الديون التي كانت تُثقل كاهلها، وكما ذكرنا -والكلام له- أن هذه الديون كانت لعدد من التجار في البلاد؛ فرأى أنه من الأفضل توحيد مصدر الدين؛ بحيث يستطيع تسديد الديون القديمة مع الحصول على زيادة تصلح للمساعدة على القيام بالإصلاحات المرجوة. عندها، لم يجد أمامه من يُمكن أن يقوم بتلبية طلبه هذا غير حكومة الهند الإنجليزية.
ملحوظة:
الهند الإنجليزية.. تحمل دلالة عميقة؛ نسبة للواقع السياسي والاقتصادي للفترة التي تحدَّث عنها السلطان سعيد بن تيمور، وكان بالإمكان أن تحمل كلمته الإنجليز، ويكتفي بهذا القدر، ولكن يبدو أن الهند كانت شريكة الإنجليز في إدارة شؤون المنطقة، سيما الدول التي احتاجت للمعونة، وأنه من أوضح الواضحات أن القنصلية الهندية بجانب البريطانية في قلب العاصمة مسقط من أقدم القنصليات، كما أن العنصر الهندي قد وطِأت أقدامه أرض عُمان منذ القدم.
واستطرد السلطان سعيد بن تيمور في ذكر دور الإنجليز في إدارة مالية الدولة؛ فقال إن الفترة الثانية التي تبدأ من سنة 1925؛ رأى فيها السلطان تيمور بن فيصل ما وصلت إليه الحالة المالية من سوء وانهيار، فكَّر في أن يستخدم موظفا جديدا ليقوم بتنظيم مالية الحكومة، فقرَّر استخدام مستر برترام طومس الإنجليزي، فعيَّنه وزيرا للمالية بعقد لمدة خمس سنوات؛ رغبة في تحسين الوضع المالي للحكومة.
ويتحدَّث عن العام 1931، فيقول: فقرَّ الرأي على أن يستخدم (مستر هجوك الإنجليزي) مستشارا للمالية، وذلك في سنة 1931، وهذا الرجل كان من كبار موظفي وزارة المالية في حكومة العراق وقتئذ، وقد باشر عمله بكل نشاط ومثابرة، إلى أن انتشل المالية مما وصلت إليه. وكُنَّا آنذاك رئيسا للوزراء مع الإشراف على الشؤون المالية للسلطنة.
سعيد بن تيمور يخفض مخصصاته
”وفي يوم 11 من شهر فبراير 1932، وبعد أن تنازل والدنا المحبوب السلطان تيمور بن فيصل لنا لأسباب صحية؛ فبعون الله تعالى تولينا الحكم منذ ذلك التاريخ، وأولينا الناحية المالية اهتماما خاصا، ولكن نظرا للضغط الاقتصادي الذي أثر على ميزان التجارة العالمي في ذلك التاريخ، وجدنا أنفسنا في حالة نضطر معها لضغط مختلف أبواب الصرف، والاقتصاد في النفقات، وكان أول عمل نفذناه في سبيل الاقتصاد تخفيض مخصصات السلطان؛ حيث تم تخفيضها إلى نصف ما كانت عليه في السابق”.
ومن المفارقات العجيبة أن السلطنة قد تحسنت أوضاعها الاقتصادية مع نشوب الحرب العالمية الثانية، وكما يذكر السلطان سعيد في كلمته: “أما الفترة الثالثة، فقد كانت بدايتها منذ سنة 1939، يوم نشبت الحرب العالمية الثانية، إلى سنة 1945؛ حيث توالى ارتفاع أسعار السلع والحاجيات، فتحسن دخل السلطنة من الجمارك، فأدخلنا زيادات أخرى على رواتب الموظفين، وقمنا ببعض الإصلاحات الضرورية في أنحاء السلطنة، ومنذ 1933 إلى يومنا هذا لم يطرأ على ميزانية الحكومة أي عجز مالي ولله الحمد.
واستطاعتْ الحكومة أن تحتفظ باحتياطي من المال لا بأس به للطوارئ، هذا مع ما كانت ملزمة به من مختلف أبواب الصرف، لا سيما ما كان مخصصا للدفاع، وهو الباب الذي كان يستنزف نصف الميزانية تقريبا، وكنا نتطلع إلى إدخال مختلف الإصلاحات إلى الكثير من مرافق البلاد التي كانت في حاجة ماسة لذلك، غير أننا لم نجد لا في مالية الحكومة ولا في الاحتياطي ما يُشجع على القيام بأي نوع من المشاريع، وفي الوقت ذاته لم نشأ أن نرهق مالية السلطنة فنُثقلها بديون جديدة بعد أن سددنا الديون السابقة جميعها، ولا شك أنه كان يتيسَّر لنا أن نجد المال من مختلف الجهات، وهذا لا يكون إلا بالدين وبفائدة بنسبة مئوية معينة، وهذا الربا بعينه، فلم نوافق عليه إطلاقا، وتحريمه الديني غير مجهول”.
قبل صدور هذه الكلمة، بدأتْ الحكومة تهيئة الرأي العام، وبث الدعاية عبر الوسائل المتاحة لتلقِّي خبر “كلمة السلطان”، وواضح من الديباجة أن السلطان سعيد بن تيمور كان قبل تدفق البترول لم يكن في الوضع الذي يستطيع معه أن يتحدث للشعب العُماني بخصوص المشاريع أو ما يجول في خاطره؛ حيث قال: “الآن.. وقد مضت ستة أشهر على ابتداء تصدير النفط من عُمان، بتوفيق الله، وبجهود شركة نفط عُمان المحدودة، أرى أنه من الواجب علينا جميعا تقديم فروض لشكر الله تعالى على ما أنعم علينا جل شأنه من فيض الخيرات وعميم البركات، ولولا ظهور النفط لما استطعتُ أن أتحدَّث إليكم بخصوص ما سنحقق من مشاريع، أو ما يجول في أفكارنا من آمال، ما تعلمون بأن المال هو عماد الآمال.
ويحسُن بنا قبل أن نتحدث عن المشاريع الجديدة، أن نقف قليلا، ونلتفت إلى الماضي القريب، لنعيد إلى الأذهان حقيقة الحالة المالية في السلطنة، وما كانت عليه في ذلك الأوان، ولا شك أن كل من له أي إلمام بأحوال البلاد يعلم أن عُمان ليس بالبلد الغني، وأن الحالة المالية لم تكن تساعدنا على السير قدما بخطوات أوسع مما كنا نخطو، لذا خطونا وئيدا”.
نتذكَّر جيدا أن الأهالي في مطرح كانوا في حالة من الترقب المشوب بالسعادة، والأحاسيس الجياشة فيما أشيع من خبر كلمة السلطان التي باتت تستحوذ على الشارع المطرحي. فالمقاهي والمجالس والبحر والمدارس وأماكن السمر والأسواق، كلها كانت تتهيَّأ لنبأ كلمة السلطان التي أشغلت الرأي العام قبل أن تأتي في كراس على شكل صفحات قليلة عميقة المعنى والدلالة.
لم يكن الشارع العُماني قد سمع من سلطانه خطابا، أو كلمة، أو تسديدا مباشرا، ولعل الظروف الاستثنائية المؤلمة التي ألمَّت بالواقع العُماني من الحروب الطاحنة من البريمي والجبل فظفار، قد أنهكت قوام الدولة التي ما فتأت تبحث عن حالة الاستقرار، وتاهت مواردها حتى نجد أن السلطان يذكر في كلمته أن الجيش كان يستحوذ على نصف موازنة الدولة.
نتذكَّر جيدا أن الشعب العُماني في الستينيات من القرن الماضي كيف كان يتلهف لسماع الخبر، ومتابعة العالم في تطوره، وإنني من ذاكرة الأيام أوقف القارئ على بعض ما تحمله الذاكرة من مشاهد حية لا تزال لها صور في المخيلة، وليست هي كلها، لكنها وعلى قلَّتها تُعتبر من المشاهد التي ارتكزت في الأذهان. فنتذكَّر، ومن عاش في مطرح، تلك الحقبة كيف أن الأخبار كانت شحيحة. فمع أُوْلَى ساعات الصباح، كان التجار يهرعون -وبعد تناولهم الإفطار في واحد من المطاعم المنتشرة في أسواق وحواري مطرح- إلى أخبار الحائط على مدخل سوق مطرح، على جدار محلات جعفر باقر عبداللطيف، على مدخل سوق خور بمبا. فعلى الحائط، كانت الحكومة تنشر القرارات والتعاميم من وقت لآخر، وإعلان الوفيات، وحكم بعض القضايا في المحاكم ذات الصلة بالتجارة أو التجار أو الشأن العام الذي يستحوذ على الأهمية.
كما أن الأخبار عن حق الورثة والمطالبات والفتاوى الشرعية، هي الأخرى كان لها حضور على البرواز المفتوح على كل مُستجد؛ لدرجة أن الإعلانات كانت تأخذ حيزا من أطراف الجدار خارج المكان المحدد لها، ومع تقادم الخبر كانت الأوراق تمزق من لدن المأمور بمكتب الوالي، ولم يكن سهلا أن تمتد لها يد المار أو المتابع حتى مع ضيق المساحة وأهمية الأخبار المستجدة.
وقد استمرَّت الحالة حتى بدايات العام 1972، حينها وعلى الطرف المقابل وضعت مناشير الأفلام في برواز حديدي سميك مع صور الأفلام الهندية التي كانت قد انتشرت في روي مع النهضة الميمونة. كما أنَّ المطرحي، وفي الخمسينيات وجزءا من ستينيات القرن الماضي، تناهى لأسماعه قرع الطبول، وكان ذلك وسيلة من وسائل إعلام الناس بالخبر، وعلى شاكلته كان الطبال يقرع في أسحار شهر رمضان لإيقاظ الناس لتناول السحور.
بقي المطرحي متابعا لأخبار العالم من خلال الوسائل المتاحة، ومع انتشار المذياع من محلات جعفر باقر عبداللطيف (فيلبس)، وتاول (أجهزة سيرا)، ورغم ضعف الالتقاط وغلاء البطاريات، فإن المطرحي لم تعوزه الهمة من متابعة الأخبار ساعة بساعة ولحظة بلحظة.
فعلى صوت عموم الهند، وعلى وقع لتا ورفيع ونورجهان وشمشاد بيغام وأشا بوسلي وطلعت محمود ومكيش، كانت الأسطح في الليل تتداخل فيها الأنغام على ممنوعيتها. ومع تقوية البث مع مرور الزمن، تم التقاط صوت العرب من القاهرة، وعلى جلجلة حنجرة عبدالناصر وخطاباته القارعة للاستبداد والظلم واستنهاض الهمم، كان المطرحي يتابع ما يحصل في عالمه العربي خارج نطاق أسواره.
وبعد ناصر وقبله، فإن حنجرة كوكب الشرق كانت تهدهد الكبار، ومعها أسمهان، وعبدالوهاب والصغيرة نجاة. مع برامج “ما يطلبه المستمعون” من القسم العربي بإذاعة الباكستان، و”البث العربي” من إذاعة الكويت، و”القسم العربي” من الإذاعة البريطانية، ومن إذاعة كولومبو سايلون من سريلانكا، كان المطرحي يتابع ما يدور في العالم وفي بلده كذلك.
عاش المطرحي عزلة مقيتة، وكان يتواصل مع أهله المغتربين -سعيا وراء لقمة العيش- عبر رسائل بالمراسلات البريدية والشفهية، وكان من له أهل خارج الوطن يتجمعون حول من وصل من السفر لاستلام الرسائل المرسلة، وقد كانت تشكل وسيلة التواصل الوحيدة مع غياب الوسائل الأخرى المتاحة آنذاك في البلدان المجاورة.
وقد انتشرت بعض الصحف والمجلات خِلسة؛ منها: آخر ساعة والمصور المصريتان، والمجلة العربية من الكويت، وجريدة نور الإسلام باللغة العربية وكانت تصدر بالهند. وكان بعض الشباب يستعيرون مجلة الهلال المصرية من نادي مقبول بمسقط مع بعض الدوريات والكتب التي شكلت وجها ثقافيا جيدا في تلك المرحلة.
ومن الطرائف الجميلة التي كانت تحصل في مطرح، وكانت تعتمدها الجهة التي تريد أن تنشر الخبر لأهميته، فتعمد إلى مندوب من مندوبيها أن ينشر الخبر عبر شخص مُتفنن في نقل الأخبار، وعادة كان يأتي المندوب وينبس في أذن هذا المتفنن الناقل الحاذق خبرا من الأخبار، وينشده أن لا يذيع الخبر؛ كونه سرا مهما للغاية، وما إن ينتهي الخبر إلى مسامع هذا الناقل حتى تجد أن الخبر قد شاع في الشارع والبيت والمطعم، ولم يبقَ أحدٌ إلا وقد عرف بالخبر، وقد انتشر كانتشار النار في الهشيم. فنٌ لم يكن ليجيده إلا أصحاب الفن، وعلى غراره عاش المطرحي فنونا وأشكالا من التعامل؛ لذا فإنَّ من لم يعرف مطرح لم يعرف عُمان، ومن لم يعش مطرح في تلك الحقبة الستينية فاته جل طعم مطرح.
بقيت كلمة السلطان محل درس ونقاش وتأويل وتفسير وتخمين، وعاش المطرحي مترقبا لها، وأول ما نشرته الحكومة فإن تجار مطرح كانوا أول من تحصل على نسخها، ويومها كان أكبر عيد؛ لأن مطرح كانت في قلب كلمة السلطان، وسنعرج على كل تفاصيل كلمة السلطان، وظروف وواقع عُمان في تلك الفترة الستينية.
أستطرد في كلمة السلطان: “في سنة 1958، عرضت علينا الصديقة الحكومة البريطانية مساعدات مالية لتصرف في سبيل تقوية جيش السلطنة، وإدخال التحسينات على التعليم، وإقامة المستوصفات الصحية في مختلف ولايات الساحل والداخل، وإنشاء الحقول النموذجية التجريبية لتحسين حالة الزراعة في البلاد ولرفع مستواها، ولشق طرق المواصلات…وما إلى ذلك من إصلاحات أخرى، فقبلنا منهاجا منها هذه المساعدات، شاكرين لها هذا العون.
وقد استمرت هذه المساعدات حتى أواخر مارس من السنة الماضية؛ أي قبل الشروع في تصدير النفط من البلاد إلى الخارج بأربعة أشهر، وكان ذلك في أواخر يوليو 1967”.
إننا أمام تاريخ مضى عليه قرابة نصف القرن، وأمام بلد شحيح في الموارد آنذاك، وفي المقابل فإن البلد كان أمام محنة مستحكمة من الحروب، ومكبلا باتفاقية السيب التي وقعها الطرفان عام 1920؛ جانباه: الحكومة المركزية في مسقط، وآخر متمثل بما كان يعرف بالإمامة.
وقفت بريطانيا مع سلطة المركز ودعمتها بكل ثقل لتجتاز المحنة، ولولا هذه الوقفة التي اعتبرها رجال الإمامة التفافا على اتفاقية السيب التي أعطت الإمامة السلطات السياسية والاقتصادية، لدرجة ذهبوا إلى القول بتقسيم البلد لجزئين مسقط والداخل، وما حرب الجبل إلا إفراز طبيعي من وجهتهم بتملص سلطة المركز عن الاتفاق الموقع بين الطرفين.
ما يهمنا هو موقف بريطانيا في الوقوف مع سلطة المركز المتمثلة بسلطان البلاد السيد سعيد بن تيمور؛ حيث اجتاح الجيش مواقع الإمامة ودارت رحى الحرب بين الطرفين، وهرب من بقي من رجالات الجبل فيما نجحت حكومة المركز من القضاء عليهم بالمساندة البريطانية التي لولاها لتقسمت عُمان إلى دويلات وكيانات.
يتذكَّر أهل مطرح أن حالات الهلع كانت تسود البلاد؛ حيث إن مستشفى طوماس كان يتلقى الجرحى والمصابين جراء التفجيرات التي كانت تحدث في أجزاء من البلاد، وهناك وثائق أثبتت الحالات التي تعامل معها المستشفى في أوج فترات الحرب المستعرة بين سلطات المركز وأخرى الجبل. يتذكر الأهالي كيف أنه تم نشر خبر احتراق سفينة دارا في أبريل عام 1961، وهي منطلقة من قبالة سواحل دبي، وعلى متنها عُمانيون، وقد تناولنا الحدث في واحدة من حلقات “من ذاكرة الأيام”؛ إذ إن الإذاعة البريطانية بالعربية نشرت الحدث ليلة الفاجعة أي يوم 8 من أبريل عام 1961، على أن الحاصل على متن السفينة كان ناشئا عن انفجار قنبلة على ظهر السفينة أي الحاصل كان بفعل فاعل.
ومهما كان من الأمر، ومدى صحة الخبر من عدمه، فإنَّ الأجواءَ كانت مُهيَّأة لتصديق الخبر نتيجة توالي التفجيرات من حالات الاحتقان، وإن كان ما حصل على سفينة دارا -إن كان حاصلا كما نسبته الإذاعة بي.بي.سي لندن- من تفجير، فإنه ينبغي أن نعلم أن حرب الجبل قد انتهت في صالح سلطة المركز قبل نهاية العقد الخامس من القرن الماضي، وأن ما حصل على ظهر دارا كان بعد استتباب الهدوء المشوب بالحذر بأربع سنوات بتمامها.
واستطرادًا للواقع، فإن هناك من يَرى أن حرائق مطرح في العام 1964 هو الآخر كان بفعل فاعل، لتقويض سلطات سعيد بن تيمور، ويرجع السبب فيه إلى أن بريطانيا من كانت وراءها لخلق التذمر والسخط الجماهيري على سلطات سعيد بن تيمور في مرحلة ما بعد القضاء على رجالات الجبل وفلولهم، ولا أرى هذا الرأي يصمد أمام الحقيقة التاريخية الراسخة، وهي أن بريطانيا وقفت مع سلطة سعيد بن تيمور، ودعمته بالمساعدات حتى أواخر يوليو عام 1967, كما بينه السلطان سعيد في كلمته التي تناولنا أجزاء منها، مع أن بريطانيا كان بإمكانها أن تلعب بأوراق الضغط على النظام على أكثر من صعيد، خصوصا وأن قيادة الجيش والاستخبارات كان بيدها، ونعلم أن الرجل الأول TIM LANDAN كان حتى آخر ساعة من ساعات وجود سعيد بن تيمور في السلطة موجودا وقريبا من السلطان.
أراد السلطان سعيد بن تيمور في كلمته -ضمن ما أراده- توضيح الوضع المالي للبلاد في مراحل معينة، وباقتضاب مر على مرحلة والده السلطان تيمور بن فيصل، الذي تنازل عن الحكم لابنه سعيد الذي استلم مقاليد الحكم عام 1932.
كما أنه سلط بعض الضوء على عهد جده فيصل بن تركي؛ حيث ذكر أن الحكومة في عهد جده السلطان فيصل وحتى ما قبله، تنتهج نهجا عاديا بسيطا في تصريف جميع شؤونها وعلاقاتها؛ فلا ميزانية ولا تخطيط ولا تنظيم، فالارتجال كان الأساس لكل ما يعمل أو يقال، وهي الحال التي كانت سائدة في ذلك العهد في معظم البلاد العربية.
ونعلم -كما أسلفنا في الحلقات الماضية- أن حكومة الهند الإنجليزية أقرضت حكومته في تسديد الديون للتجار، فوحَّد السلطان سعيد الدَّيْن، بل إنه استعان بمال الإنجليز الذي تحصل عليه كمساعدات، ولأنها بعنوان المساعدات فقد قبلها لإنعاش مالية الحكومة، وقد قضى على الدَّيْن، وعلاوة عليه فإن كان قد مد يده في الإنفاق للعطايا والهبات المعتادة لشيوخ القبائل والوفود؛ حيث كانت الحكومة تظهر بمظهر الغني واسع الثروة، كما جاء في كلمته.
ومع هذه السيرة، فإن الإنجليز لم يحجموا عن المساعدات، وقد ذهب نصف الموازنة العامة للدولة على الجيش الذي كان عماد البلد، ولعلنا ندرك ومن خلال وضع السلطنة خصوصا في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، أن المئات بل الآلاف من أعداد الجنود في المعسكرات الذين غاصت بهم السلطنة على امتداد حدودها, خصوصا في بيت الفلج وبوشر وبدبد, وعلى تخوم الجبل وفي كشمير من أرض صحار، وفي أم الغوارف، بقيادة المقدم تيرنل الذي كان السلطان يعتمد عليه لتمركز فرقته في صلالة مع باقي رجالات الإنجليز من وزير الدفاع العقيد هيو أولدمان وقائد قوات السلطان المسلحة جراهام.
ديموغرافية مطرح
بعد أن هدأ زئير البنادق في الجبل، ومع العام 1957 سيطرت قوات السلطان المسلحة على الوضع في الداخل على امتداده، فإن جل اهتمام السلطان بدأ بعد حرب البريمي في 1952، ثم 1957 في الجبل قد انصب على جبهات ظفار التي أنهكت موارد الدولة، وكانت هي الأشرس من جميع الحروب، وكان لها الأثر السلبي البالغ على الموارد والقوات المسلحة لأكثر من سبب، ولعل الحرب الباردة بين القطبين الناتو والوارسو، واحدة من بؤرها هي جبال ظفار، والدعم الممدود لها من قلب عدن.
ولست واردًا تناول الحدث من حيث تفاصيله ومؤثراته الدولية والمحلية، بقدر ما أريد التحدث عن مطرح التي تشكل محور اهتمامي لهذا السرد كله، منذ أول حلقة من حلقات “من ذاكرة الأيام”. فقد شهدت مطرح التحولات الديموغرافية بشكل لم يكن معهودا حتى العهد القريب من عهد السلطان سعيد بن تيمور، بل مع بدايات عهده إلى ما قبل أوج حرب الجبل، فالبريمي، ثم ظفار.
واستدراكا من السلطات مع تنامي سكان مطرح، فإن أول شرطة قد تم تشكيلها في مطرح كانت في أواخر عام 1963 وأوائل عام 1964، علما بأنَّ نواة الشرطة كانت قد تشكلت في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، وكانت في قلب مسقط، وكان أول مفتش لها هو مُحمد جواد درويش اللواتي، الذي استقال منها بعد أربع سنوات من الخدمة، وغادر إلى باكستان للالتحاق بصديق دربه الأستاذ جواد الخابوري، عند انفصال باكستان عن الهند بعد استقلال الهند عن بريطانيا عام 1947.
الشرطة في مطرح تكونت كأول نواة من خمسة وعشرين عنصرا، ونتذكر أن الشرطي كان يلبس الكاكي الداكن من اللبس العسكري، وكان المركز على شكل مكتب عند شركة سانيو، ومن ضمن من التحق بالشرطة في مطرح عند أول تأسيس السيد قاسم. وكانت شرطة مطرح تتبع مكتب الوالي إسماعيل الرصاصي.
ومع تنامي السكان، فإنَّ الجريمة قد ازدادت فيها حتى أمست ليالي مطرح غير مأمونة الحال؛ بحيث السطو على المنازل والسرقات الليلية في الحارات مع سرقة المحلات أصبحت أحاديث المقاهي، ومع تنامي الجريمة، فإن أهالي الحارات جاسوا خلال الديار أثناء ساعات الليل حفاظا على البيوت من السطو، وما حرائق مطرح عام 1964 إلا شاهد حي على تنامي الجريمة في مطرح، والتي على إثرها شكلت قبيلة اللواتية فريقا للحفاظ على البيوت من التعرض للسرقة أو السطو أو الحرائق التي انتشرت في مطرح.
ونتذكر فيما له الصلة بشرطة مطرح أن من ضمن الفرق التي تشكلت في الحفاظ على أمن مطرح: فرقة الشرطة التي وقفت مع الأهالي، وكان لها دور فاعل في إخماد حرائق مطرح، إلا أن أهالي مطرح هم من كانوا يشكلون الواجهة الإدارية والمالية والتنظيمية، وبقي دور الشرطة بادئ ذي بدء مساعدا، ومع الزمن فإنه قد تطور في مستوى المبادرات. كما أن الشرطة قد نشطوا في لاحق الأيام في الكشف عن المتاجرين بالخمور والمحششين، حيث انتشر الخمر والحشيش مع تنامي الدخول، ومع التوسع في النشاط التجاري.
شهدتْ أسواق مطرح حركةً نشطةً في الستينيات لم تعهدها من ذي قبل، ونظرة إلى حالة المطاعم، فإن المشهد يدل على تزايد عدد هذا المكون بصورة مضطردة غير مسبوقة. فقد زاد عدد المطاعم إلى الضعف، بل ويربو. وقد ذكرنا فيما مضى أن عدد المطاعم لم يكن ليتجاوز في كل مطرح عشرة مطاعم في أحسن الحالات في بداية الستينيات.
من مطعم داود مشهدي إلى شمبيه فغلوم العجمي، مرورا بمطعم علي حسن بكارا الذي كان يعتبر واحدا من المطاعم السعفية في قلب خور بمبا، وقد كان مرتادوه تجارا وباعة في مطرح، وأغلبهم من ذوي الدخول الجيدة والمتوسطة.
كان هذا المطعم من المطاعم المنتشرة في خور بمبا، وميزته أنه مع أولى ساعات الصباح يقدم مرق اللحم المشبع بالتوابل مع خبز التنور والدال (العدس)؛ حيث إن أجود اللحم من لحوم الضأن كان يتوافر في مطعمه دون أكثر المطاعم انتشارا؛ لأنه كان يحرص على أن يشتري من أحسن اللحوم، ومع أولى ساعات الفجر من نفس المسلخ في الأربق في حارة الشمال، وهو المسلخ الوحيد في كل مطرح.
وقد ذكرتُ في واحدة من الحلقات أنَّ أجود أنواع الزلابية التي أكلها المطرحي في مناسبات الأعياد، كانت تُصنع بيديه، وكان يُقدِّمها في الكراع (الكيس الورقي المقوى)، ولم يكن في مطرح من سبقه إلى هذه المهنة التي انتشرت فيما بعد مع التواجد الباكستاني المتزايد في السبعينيات.
نَبْقى في المطاعم؛ فمع تزايد أعداد السكان، افتتح رجل يُدعى إبراهيم من “جوادر” مطعمه المشهور في نفس موقع سانيو مقابل (الإستيشن) لسيارات الأجرة (التكاسي)، وكان قد استأجره من جعفر باقر عبداللطيف. واشتهر هذا المطعم بأصناف من الطعام على أسلوب إخواننا الجوادريين من أنواع المرق وأصناف الحلوى.
وكان المطعم يكتظُّ بمرتاديه حتى ساعات الليل، وغدا المطرحي حينها رقما مضافا لمرتادي هذا المطعم الذي تميَّز عن غيره بسعة الموقع ونوع الطعام، وقد قدم أنواعا من الإدامات لم يعرفها المطرحي من ذي قبل؛ من قبيل: القيمة (اللحم المفروم)، وناروشت لأصناف من الكبدة والكيعان وحلاوة بوتينج.
وتبعُه رجل آخر من بلدته أيضا يُدعى “عبدالرسول”؛ حيث اشترى من الحاج مال الله علي أغا مطعمه في الطابق العلوي المعروف بمطعم مال الله، وكان موقعه على بُعد أمتار من مطعم إبراهيم الجوادري، وميزة المطعم أنه كان يُطل على الساحة المفتوحة لبوابة مطرح، وعلى الدوار لموقف الشرطي المحافظ على سير المرور في دائرته المظللة.
كان المطعم على أقصى ارتفاع من المبنى في ذلك الوقت، وكان مرتادو المطعم يحرصون على أن يأخذوا مكانهم عند شرفات المطعم ليُطلوا على المارة، وعلى حركة السوق، وعلى كل شارد ووارد في مطرح، ومع الليل وهدوئه فإن المحظوظ في ليالي الأعياد من يجد له موقعَ قدم في فناء المطعم وباحته، ويفاخر بين أقرانه أنه تناول الوجبة في المطعم العلوي. وهذان المطعمان كانا يُعدان من أغلى المطاعم في مطرح؛ حتى إن الوجبة الواحدة فيهما كانت بمثابة ثلاث وجبات لمعوز يتناوله في واحد من المطاعم المنتشرة على طول خط المطاعم وحواليها.
وبجانب هذين المطعمين، فإنَّ غريب آباد، ومطعم داود جمعة، ومطعم كوه سنج، ومطعم عمر البلوشي، على أول خط من جيدان، فإن معظم هذه المطاعم -إن لم نجزم بكلها- كانت قد أنشئت مع تزايد عدد الوافدين, خصوصا من بلدة “جوادر” في مطرح.
وما دمنا قد مررنا على ذكر المطاعم، فإن مطعم آدم كان يعتبر من مطاعم الجيل الأول، وقد امتاز عن باقي المطاعم بأنه كان متنوعا، وبقي الأرخص ما بين المطاعم، بل الأكثر شعبية من جميع المطاعم من غير استثناء، فمرتادوه من العمال والمعوزين ومتوسطي الحال، وبقي على مستواه وقدم الأحسن في السمك والدال والناروشت من اللحم والسمك ما فاق به أقرانه.
فمع ساعات الليل وقبل الفجر بوقت، كانوا يتحركون على المسلخ في الأربق، ويذبحون لأهل مطرح بما لا يتعدى لكل منهم ثلاث ذبائح، وكان كل أهل مطرح بما فيها المطاعم يكتفون بهذا المقدار من اللحم في الأيام الستة من الأسبوع، عدا الجمعة؛ حيث الكمية كانت تتضاعف لتناول معظم البيوت من اللحم يوما مخصصا في الأسبوع في وجبة الغداء، وباقي الأيام فإن الناس كانوا يتناولون السمك لرخصه وتوافره وتنوعه.
ومع أواخر الستينيات، ومع تزايد المطاعم وازدياد مرتاديها، فإن استهلاك اللحوم الحمراء هو الآخر بدأ في التزايد بجانب السمك والبقوليات، حتى اضطر معها القصابون لإمضاء أيام في الباطنة والداخلية بحثا عن أجود اللحوم، وحملها إلى مطرح، وهذه الحالة لم تكن لتتكرر إلا في مناسبات الأعياد (الفطر والأضحى)، وما عداها فإن الحالة المادية لأهل مطرح في عمومهم لم تكن لتسمح بتناول اللحوم لغلائها وشحها.
ومع هذا التزايد في استهلاك اللحوم الحمراء، فإنه وبعد دخول الكهرباء لمطرح، ومع برادات مطرح، والشركة الفنية، ومحلات تاج، على الخط -وقد مررنا على ذكرها في واحدة من الحلقات- فإن اللحوم المجمدة الآتية من شرق الأرض وغربها هي الأخرى قد دخلت على الخط، ومع تبدل الأمزجة في التعاطي مع الحالات الاستهلاكية المستجدة، ومع ازدياد السكان عن الوتيرة المتسارعة للأسباب التي تم ذكرها، فإن مطرح شهدت تطورا ملموسا على كل المستويات.
مُحسن علي اللواتي (جكاب).. التاجر الإنسان
يُعتبر الحاج محسن بن علي اللواتي المعروف بلقب “جكاب” أول صراف في مطرح، ومنذ الأربعينيات من القرن الماضي، الذي تعامل بالأخص مع العملة الهندية ثم الهندية والباكستانية، بعد انفصال الدولتين بعد استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني.
كثيرا ما كان يحصل أن كميات السلع كانت تنفد من سوق مطرح، فكان الحاج “جكاب” يوفرها من دبي، ويبقي على أسعاره، كما لو أنها كانت متوافرة في سوق مطرح، وبالحالة هذه فإنه سيطر على مفاصل هذه السلع. وبالنسبة للعملات، فقد كان الحاج جكاب يوفرها بسعرها اليومي، وكان يجلبها من دبي بين حين وآخر، وقد حصل أن تعرض غير مرة للنصب والسرقة كما حصل له في سوق مطرح عام 1968، وكسرت على إثر الهجوم المباغت عليه رِجله، وبقي طريح الفراش لأكثر من شهر.
الإنجليز ودورهم
ذكرنا هذه العلاقة المتأصِّلة بين الإنجليز وحكم السلطان سعيد بن تيمور في أكثر من حلقة من حلقات “من ذاكرة الأيام”، في تناولنا لكلمة السلطان.
بقيت هذه العلاقة من المتنانة والقوة، لدرجة أن المتابع يقف حيالها بنوع من التساؤل المحير؛ فمن المتعارف في العلاقات بين الدول أن المصالح هي في مُقدمة الإستراتيجيات الناشئة لهذه العلاقات، وتسخر من أجلها الإمكانات، وتُحشد الأيديولوجيات والإثنيات والطائفيات والعلوم، وكل أنواع الإمكانات، وتشن لأجلها الحروب، فيما العلاقات بين البلدين سلطنة مسقط وعُمان وبين بريطانيا، لم يكن من ورائها أية مصالح واضحة، حتى لكأن ما جاء في كلمة السلطان لا يلمس منه المرء أية دلالة أن لبريطانيا مصالح ملموسة وذات أثر يعود عليها بالنفع؛ حيث إن جميع ما ذكره السلطان هي مصالح بلده المحضة، وقد شكر لبريطانيا وقفتها غير مرة في كلمته.
نحمد الله أن عُمان بابنها البار جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، قد أعاد التلاحم بين مكونات شعبه، ولولا هذه القيادة الحكيمة لتمزقت عُمان أشلاء، ولدارت رحى التقاتل البيني حتى أكلت كل أخضر ويابس.
لقد عانت عُمان من ويلات التقاتل الداخلي الذي أخَّر التنمية في البلد لسنين، ولعل السبب الأساس من وراء التأخير هو أن النفط لم يستخرج من باطن الأرض مع أولى بشائر الخير في الخمسينيات من القرن المنصرم، لمروره في الأرض المحتدمة فيها الحرب، وأجدني منقادا للرأي الذي ذهب إلى أن وقفة بريطانيا كان لها الحسم، وأدت لتدفق النفط في أواخر الستينيات؛ مما كان له أكبر الأثر في تنمية البلد، وتحريك اقتصاده، وانتعاش واقعه.
من هنا، فإن الذي دفع بالسلطان سعيد بن تيمور أن يشكر بريطانيا، وفي المقابل فإن لبريطانيا مصالحها التي أشارت إليها صحيفة “نيويورك تايمز” في 27 يوليو 1957، بمقالٍ بعنوان: “الحاكم الذي يريد البترول”؛ جاء فيها: “حلم الإنجليز يتلخَّص في الحصول على مصدر أساسي للبترول في ذلك الركن من الجزيرة العربية، ذي الموقف الدفاعي المناسب، يماثل الحقول الغزيرة في الكويت والبحرين على رأس الخليج”. والسلطان يعي كل ذلك؛ فهو يقرأ صحيفة التايمز اللندنية، ومشترك في الصحف الأمريكية.
عرف السلطان سعيد بن تيمور واقعه، ومن خلال فهمه العميق لهذا الواقع، استفاد من الدعم المتاح له، والذي لولاه لما أمكنه من فض النزاع وتوحيد أطراف البلاد.
7,120 total views, 8 views today
Hits: 1168