نظرية المعرفة
د. احمد الاسماعيلي
لا يمكن لهذا المقال المتواضع أن يحلل نظرية المعرفة أو ما تسمى بفلسفة المعرفة، فهي نظرية عميقة موضوعيا وتاريخيا؛ لكنني سأحاول في هذه السطور إعادة طرح النظرية؛ خاصة ونحن أمام العدد الأول من مجلة شرق/غرب؛ المجلة العمانية المعنية بالثقافة والفلسفة والفكر. أجدني ملزما أولا بتوضيح المصطلح، فنحن نتحدث عن نظرية المعرفة (La théorie de la connaissance) أو الابستيمولوجيا (L’Epistémologie)، وقد جرت تقاليد الفلسفة الفرنسية على وضع الأبستمولوجيا كفرع من فروع نظرية المعرفة أو جزء منها، ففي حين تدرس نظرية المعرفة – بحسب التقاليد الفرنسية-عملية تكون المعرفة الإنسانية؛ فإن الأبستمولوجيا تدرس ماهية المعرفة ذاتها، وهذا بخلاف الفلسفة الانجلوسكسونية التي تضع مصطلح الأبستمولوجيا في مقابل مصطلح نظرية المعرفة.
تقوم الابستيمولوجيا بشكل أكثر دقة ” بنقد ماهية المعرفة؛ من حيث المناهج العلمية، التركيب المنطقي للفكرة، مصادر المعرفة، النظرية والمفاهيم، والنتيجة كذلك “، بينما لا تشترط تقاليد الفلسفة الأنجلوسكسونية أن تعالج الأبستمولوجيا إشكالا معرفيا خالصا؛ وبهذا المنطق فإن مفهوم الابستيمولوجيا يتقارب في دلالاته مع مفهوم “فلسفة المعرفة”؛ وهو ما دفع بتقاليد الفلسفة الفرنسية اليوم إلى وضعهما بشكل متقارب؛ كون كلا المفهومين يحملان قدرا كبيرا من التداخل الموضوعي، فقد تعالج الابستيمولوجيا موضوعا غير معرفي كالأخلاق واللاهوت مثلا كما تفعل بالضبط نظرية المعرفة، ولهذا باتت دلالات كلا المصطلحين تتقارب في سياق واحد، فأصبحت دائرتي الأخلاق واللاهوت تمثلان قضايا أبستمولوجيا. وبالرغم من الاختلاف حول الجذور التاريخية الأولى لنشأة نظرية المعرفة إلا أن مصطلح الابستيمولوجيا ظهر في القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الأسكتلندي جيمس فيرير (ت: 1864) في كتابه ” مبادئ الميتافيزيقيا”.
يعتبر جون لـوك (ت:) من أوائل من درس نظرية المعرفة كعلم مستقل في التأريخ الحديث، وذلك في نهاية القرن السابع عشر الهجري (1690)، من خلال كتابه ” محاولة في الفهم الإنساني”، ثم مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (ت:1804) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في كتابه “نقد العقل الخالص”. أما في تأريخ الفلسفة الكلاسيكية؛ فإن نظرية المعرفة تقوم بدراسة طبيعة المعرفة وماهيتها وحدودها ودرجة اليقين فيها، فهي بصورة أكثر تحديدا كما يراها الفيلسوف اليوناني Platon (ت:348 ق.م) النظرية التي تشكل في جوهرها همزة وصل بين الإيمان والحقيقة، كما يمثله بلاتون بالنموذج التالي:
ولهذا أصبح التساؤل حول المعرفة ذاتها يشكل أهمية كبيرة منذ البدايات الأولى لتأسيس المعرفة؛ ماهيتها ومناهجها والقيمة الإنسانية والعلمية التي تحملها المعرفة، وكذلك طريقة إنتاج المعرفة، والقيمة الأخلاقية التي ترتكز عليها، وغيرها من الأسئلة الأخرى التي أثيرت في معرض الحديث عن هذه النظرية أو في معرض الحديث عن مصطلح الابستيمولوجيا. فالمعرفة بحسب المقاربات الكلاسيكية في الفلسفة الإنسانية هي الاعتقاد المبرهن، تمييزا لها عن الإيمان، ولهذا ظلت المعرفة في الدراسات الكلاسيكية مقابل الإيمان، أو بتعبير أكثر دقة هي حقل أخر بخلاف الإيمان، فالإيمان لا يحتاج إلى البرهنة العلمية ليصبح معتقدا، بل يكفي الوحي لتأسيس دائرة الإيمان، بعكس المعرفة التي تعني الحقيقة، ولهذا أصبحت المعرفة في الدراسات الكلاسيكية هي ذاتها الحقيقة المبرهنة. بيد أن هذه المقابلات المفاهيمية بين المعرفة والإيمان أثارت إشكالات عديدة تتعلق بجوهر المعرفة ذاتها، فهل تقابل المعرفة الحقيقة؟ وهو ما دفع الفيلسوف الفرنسي برنارد روسل (Bertrand Russel) إلى إصدار كتابه ” مشكلة الفلسفة ” عام 1912، ليبين في هذا الكتاب أن المعرفة بطبيعتها نسبية، وأن ليس ثمة حقيقة مطلقة حتى تلك المعرفة المبرهنة. ولهذا فصلت الفلسفة الحديثة والمعاصرة دائرة المعرفة في شروطها الموضوعية عن دائرة الإيمان، فلكل دائرة شروطها ومصادرها الخاصة بها.
كان الإشكال الإبستمولوجي حول نظرية المعرفة يتطور من مرحلة تاريخية إلى أخرى، إذ لم تعد فلسفة المعرفة التي مارسها المشاؤون أمثال أرسطو، أو العقلانيون في العصر الحديث أمثال رينيه ديكارت (ت:1650) وغيرهم هي ذاتها التي مارسها الفلاسفة التجريبيون بعد ذلك أمثال جون لوك (ت:1704) ودافيد هيوم (ت:1776) وغيرهم، سواء من حيث مصادر المعرفة أو موضوعاتها التي تدرسها، فلم يعد العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة؛ بل أصبحت التجربة هي أساس نظرية المعرفة الحديثة عند جون لوك وكانت أو الفلاسفة التجريبيين بشكل عام. ولهذا؛ أسهمت الفلسفة التجريبية في فصل دائرة الإيمان عن دائرة المعرفة، فالمنهج التجريبي لا يعترف بدائرة الميتافيزيقيا أو الغيبيات وما وراء الطبيعة.
وبالرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته الابستيمولوجيا إلا أن بعض المؤسسات التقليدية ما تزال إلى اليوم تضع الإيمان والمعرفة في سياق موضوعي واحد، بحيث تُخضع كافة الإشكالات الابستمولوجية لمنطق الإيمان. ومن هنا كان لمصادر المعرفة دور هام في تحديد دائرتي المعرفة والإيمان، فالوحي هو أحد المصادر الرئيسة في دائرة الإيمان؛ كونه المنتج لأطروحات الإيمان ومسائله الكبرى، بينما يعتبر العقل والتجربة هما المصدران الوحيدان للمعرفة، ولذلك يصبح الشك هو أساس التلقي المعرفي، في حين يطلب الإيمان من أتباعه اليقين التام بكامل أطروحاته. وهنا تتسع الفوارق الجوهرية الكبرى بين الدائرتين؛ الإيمان والمعرفة، سواء من حيث طبيعة المعرفة الكامنة في كل حقل، أو من حيث مناهج التلقي، وكذلك النتائج المترتبة على أطروحات المعرفة والإيمان.
إضافة إلى الاختلاف بين دائرة الإيمان ونظرية المعرفة في مصادر كل منهما ومناهجهما؛ فإن ثمة إشكالا أخر نظرت إليه الابستيمولوجيا وهو مفهوم ” القطيعة الابستيمولوجية”، فقد كانت نظرية المعرفة تنظر إلى المعرفة على أنها بنية واحدة تشكل سيرورة مستمرة عبارة عن تراكمات معرفية إنسانية، فكل وحدة معرفية – بحسب الفلسفة التقليدية – تشكل امتدادا معرفيا للوحدة المعرفية السابقة لها، وهو ما كان يعتقده فلاسفة عصر النهضة، غير أن الفيلسوف البنيوي الفرنسي ميشل فوكو(ت:1984) اعتبر الابستيمولوجيا عبارة عن بنى معرفية متعددة ومتغايرة، وكل بنية معرفية لا تشكل بالضرورة امتدادا معرفيا لأي بنية أخرى، بل هناك قطيعة ابستيمولوجية بين وحدة معرفية وأخرى، ولهذا أوجد في كتابه الكلمات والأشياء (Les mots et les choses) مصطلحا جديدا أسماه بـ ({Système de pensée) ؛ أي ” نظام الفكر”، فكل وحدة معرفية لها نظام فكري خاص بها، وما يحدث داخل بنية النظام هو عبارة عن مناهج قابلة للاختلاف والتطور والتعدد والتجربة، وكل نظام معرفي يجب أن تخضع وحدته المعرفية للفحص الدقيق والتجربة. إن الفرق بين وحدة معرفية وأخرى – بحسب ميشيل فوكو- تكمن في بنية نظام الفكر لكل وحدة معرفية، كما تكمن في قدرة كل وحدة معرفية على إحداث قطيعة كبرى مع الوحدات المعرفية الأخرى، ومن هنا تصبح عملية اختبار الأفكار وأرخنتها وفهم حركتها وسيرورتها هامة جدا لفهم النتاج الشمولي للمعرفة الإنسانية، بل تصبح المعرفة وفق هذه الرؤية ذات تحقيب ابستيمولوجي قادر على صياغة تأريخ المعرفة أو أرخنة الفكر بعبارة أكثر دقيقة.
لقد أعاد ميشيل فوكو لنظرية المعرفة اعتباراتها الابستيمولوجية، وقام بنحت العديد من المفاهيم المتصلة بهذه النظرية، كمفهوم ” أركيلوجيا المعرفة”، وهو عنوان كتاب قدمه فوكو بعد كتابه الكلمات والأشياء، وفيه يشير إلى أن المعرفة أشبه بالطبقات الأركيلوجية، وكل طبقة مستقلة بذاتها عن الطبقة الأخرى. ومثال ذلك؛ نستطيع القول بأن الفلسفة المشائية تمثل بذاتها وحدة معرفية مغلقة، ذات نظام فكري مستقل، وهكذا بالنسبة للفلسفة العقلانية مع ديكارت والفلسفة الوضعية والفلسفة الواقعية وغيرها، فلكل فلسفة بنيتها المعرفية الخاصة بها، تشكل قطيعة ابستيمولوجية مع البنى المعرفية الأخرى.
إن هذه الرؤية تقدم تطورا لكيفية دراسة تأريخ الفكر لأي جماعة بشرية، أو لأي منظومة ثقافية معينة، فالفكر الإسلامي مثلا يتكون من بنى معرفية متعددة، لا تشكل بالضرورة منطلقات ابستيمولوجية واحدة، ولهذا علينا أن نفهم التأريخ على أنه متعدد البنى، ومتكون من عدة طبقات تتخللها عدة قطيعات ابستيمولوجية، تختلف كل وحدة معرفية عن الأخرى. إن هذه النظرة تقود الباحثين إلى تقطيع التاريخ من أجل أرخنة حركة الأفكار ومعرفة عللها وأسبابها وظرفيتها التاريخية بعيدا عن المقدس التاريخي.
24,862 total views, 8 views today
Hits: 5917