قهوة خميس عبد الله عبد الحسين اللواتي
د. علي مُحمَّد سلطان الزعابي
كاتب وباحث
عِنْد اختيارِي للكتابةِ عن هذه القهوة كانتْ تجُول في خاطِري عناوين عِدَّة.. مِنْ بَيْنِها: قهوة “چوك”؛ لاعتقادي بأن المطرحيَّ -وبالذات أهلي من اللواتية- قد اعتدنَا أن نعرفهم من خلال ألقابهم التي تكاد تطغى على الحالة الاجتماعية العامة في معرفة الشخوص والبيوت، وحتى النساء فإن الكثيرات مِنهن يُعرَفن من خلال الألقاب، وثمَّة تجاوز لهذه الظاهرة لدى الأجيال الجديدة، فإنَّ الألقابَ أمست ممسوحةً تماماً في أوساطهم.
ثمَّ اخترتُ للمقالِ عنواناً تحت “وكالة أنباء مطرح”؛ لاعتقادي بأن القهوة كانت قلب المكان الأبرز من نشرات الأخبار وفي كل مطرح؛ وذلك من حيث: مصادر الأخبار، وسرعة انتشارها؛ لاعتبار أنَّ مكان القهوة جاء على بوابة سوق تتفرَّع منه الأسواق الصغيرة من “خور بمبه”، وفي علوٍّ من الأرض، وَسْط شريطٍ ساحليٍّ مُمتد من حارة الشمال إلى المثاعيب، مُرُورا على سُور اللواتية، وسوق الكمباريين، ومطيرح، ودوحة، وكلبوه، فيما تتفرَّع عنها أسواق ثلاثة: السوق الصغير)الظلام)، والسوق الكبير، وفرع آخر يُؤدِّي إلى الدكاكين، والمطاعم، والمحال، والباعة المتجولين، والعرصة، ومعقل الحطب، والشجيعية، والجيدان، وفيهما المحال الكثيرة، وأكبر مبنى عرفته مطرح، وهو لطالب مُحمَّد بن سعيد الزكواني، والذي شُيِّد على فسحةٍ من الأرض، واكتمل بناؤه عام 1963م.
ولعلَّ أوَّل مِعمار في كلِّ عُمان تمَّ على أيدٍ عُمانية وهندية؛ إذ لا تُوجد هنالك أيَّة معلومة تُفِيد بدخول العمالة الهندية في تشييد المباني تُستخدم للأغراض السكنية والتجارية، وذَكر لي أكثر من مَصدر بأنَّ خرائط المبنى المكوَّن من ثلاثة أدوار، وبأسلوبٍ هندسيٍّ دقيقٍ قد جاءتْ من الهند لصلةِ صاحب المبنى بالهند؛ من خلال تجارتِه بالبسور على أوسع نطاق؛ فهو من كِبار التجار الذين تعاملوا مع الهند من خلال البسور العُمانية التي ذاع صِيتها في عُموم الهند في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
وجَمِيع هذهِ الأسواق تُعتبر امتدادات لخور بمبه، أو ذات صلة بها؛ باعتبار أنَّ خور بمبه بوابة أسواق مطرح من جِهة البحر، وما يُميِّزها عن باقي التفرُّعات من الأسواق وقوع بوابتها على الشريط الساحلي، فيما الشارع الأسفلتي كان يتوسَّطها إلى عهدٍ قريب، وكان مَعْبَرا للسيارات إلى الجهتين الجنوبية حتى مسقط أو الشمالية حتى أبعد نقطة من امتدادات مطرح ما بعد دارسيت.
كَمَا أنَّها على الواجهةِ البحريةِ لمطرح؛ حيث حركة السفن التجارية، ودخول البضائع إلى كلِّ عُمان عبر ميناء مسقط، ومن ثمَّ ميناء السلطان قابوس -حفظه الله- في العهد الميمون) تحوَّل ميناء السلطان قابوس إلى ميناء سياحي).
وبهَذِهِ الجغرافيَّة، فإنَّ القهوةَ شكَّلت قاعدة مهمَّة لتناقل الأخبار، خُصوصاً إذا عرفنا أنَّ توقيت تأسيسها جاء في فترة عصيبة؛ إذ الحرب العالمية الثانية كانت مُستعرة، والبحر كان يُشكِّل الواجهة لتلقي الأخبار، وأنَّ ميزة مكان القهوة هي قُربه من مكتب الوالي؛ حيث مركز القرار والدعاوى. وبجانب وجود الفرضة وميدان الميازيين والجمادارات والمكاتب التجارية، من قبيل: مكتب تاول، ومُحمَّد حسن الصراف، وخميس فيض الله، وجعفر لالاني، وعلى بُعد منها مكتب الحاج باقر عبداللطيف، مرورا بمكتب برشوتم كانجي وتوبراني، فيما مكتب كيمجي رامداس في وسط السوق الصغير، مع مكاتب كلٍّ من: الحاج مال الله حبيب مراد، وملا باقر، وباقر عبدالرب، وأولاد متواني، والحاج سلمان ناجواني، وسليمان الهنائي، والتجار المشهورين؛ من قبيل: مُوسى محسن علي) راعي سبلة الطعام)، وعلى الخط الأقرب منها عشرات التجار من قبيل محل مُحمَّد جواد تقي، وعبدالرضا ولد ماس، وعلي صُومار، وإبراهيم صُومار، والحاج محسن حسن الجمالاني، وشمبيه البلوشي، وسعيد عبدالله الساجواني، وعشرات من أصحاب المهن؛ من قبيل: رُستم العجمي صاحب المخبز (التنور) وآبكوشت، والحلاو زهران علي الهنائي، وسنجور، وسيف الأخزمي.
وعَلى الطَّرف الآخر، وبجانبٍ منها من جهة البحر، مكاتب كلٍّ من: الخنحي، وموسى عبد الرحمن حسن، وشعبان زعاب، وعشرات من تجار الفخار وتعليب الفواكه، وهؤلاء كلهم تعاملوا مع البحر، ومع حركات السفن، وأغلبهم كانوا يرتادون القهوة في ساعات الصباح والشمس وقتما تُشرق، والتي كانتْ تُسلِّط أولى أشعتها صَوب القهوة، وعلى واجهة خور بمبه التي كانت تستقبل تباشير الصباح بوجهٍ ضاحكٍ مُستبشر؛ حيث الحياة والحركة والعمل والهِمَّة.
مُعظَم النواخذة كانُوا حلاس البحر، وكانوا يقضون ساعات المساء على ظهور السفن، ومع تباشير الصباح كانوا يزحفون إلى القهوة، وجلهم كانوا ربَابِنة السفن الشراعية التي كانتْ تغُط في نوم عميق حينما كان الظلام يُخيِّم الرحب الفسيح من مساءات مطرح، وريثما ينبلج عمود الصبح مُعلناً عن يوم جديد من أيام مطرح العتيدة.
وعُنْوَان آخر كان يَدُور فِي المخيال بأنْ يكون تحت مسمى: “إستراحة المحاربين”؛ إذ إنَّ معظم من تعامَل مع سوق مطرح، وبعد ساعات العمل، فإنَّ الاتكاء على أرائِك القهوة (الكنادل) كان أملاً يحدُو العامِل للاسترخاء في سَاعَات الضُّحَى، وبالأخص عِندما كانت الرِّيح تسف بالغربي أو الصوري، فيُتخذ من القهوة ملاذًا للراحة، هربًا من لفحات الحر اللاهب.
ومَع أيام (الأكيذب)؛ حيث الرِّيح التي كانتْ تأتِي بالأمواج فتصطك بالجدار السميك من جهة البحر، ومعها فإنَّ القهوة وهي تغُوص بالجالسين حلقاً، وعلى وقع الأمواج فإنَّ ماء البحر كان يتسلَّل عبر الجُدر على ارتفاعها عن سطح البحر، فتبل معه السرابيل، ومتى ما جاءتْ ضربات “حيمر” و”الشلي”، فإنَّ القهوة كانت تغرق في مياه البحر، ولم يكن ليشفعها ارتفاع الجُدر وسماكة الآجر والجص، وعندها فإنَّ المرتادين لساحاتها كانوا يختَبِؤون في الجانب الخلفي منها لعلوِّها عن سطح القهوة بأشبار ووارات (الوار: وحدة المقاس قبل دخول المتر).
وَمَع استعْرَاض العناوين كُلِّها، فقد وجدتُ أنَّ أفضل ما يُمكن أن أبدأ به هو ما قد خطَّه القلم بأنْ لا يتخطَّى العُنوان صاحب القهوة الذي أفنى شبابه، وأجمل أيام عمره في خدمة الناس من هذا الموقع.
جاءتْ فِكْرَة إقامة القهوةِ في هذا المكان من الأرض من جانب الحاج مُحسن جواد غلوم الصحمي، وهو صاحبُ الأرض التي كانتْ تستخدم لإنزال الحمولات عن ظُهُور الدَّواب، وهي تحملُ المؤن الآتية عبر بلدات عُمان المختلفة.
استَحْسَن الحاج خميس (چوك) الفكرةَ، ووجدَها مُفِيدة، خصوصًّا وأن المكان في أول السوق، إضافة إلى أنَّ الحاج خميس كان لديه من يُمكن الاعتماد عليهم في تأسِيس القهوة. فأمُّ العيال (فاطمة بنت إبراهيم علي العجمية) كانتْ اليد المُعِينة والمشارِكَة في تحمُّل المسؤولية. فقد كان لها الدَّوْر في تربيةِ الأبقار وحَلْبِها وبَيْع الحليب على البيوت المجاورة والبعيدة، وتُعِين زوجها على توفير ما يلزم من كثير من احتياجات العائلة. وما إنْ بَدَأ خميس في مشروع القهوة الذي تَوسَّع مع الزمن، فإنَّ الحليب كان يَذهب إلى قهوته. ويومها لم تعرف دهاليز مطرح “ستار بكس” بقهوتها الكابتشينو ورغوتها التي تُصِيب ذُبَابة الأنف عند مَذَاقِها وقبل احتسائِها، كما أنَّ “سكند كاب” لم يكُن يعرفه كل رجالات “البزنس” عندما ينتظر الزَّبائن منتُوجاتهم ساعة عرضها وهم يفترشون “الآيباد”، فاتحين معروضاتهم على خرائط “جوجل” في عملياتٍ تسويقية مشوقة. كما أنَّ “كوستا كوفي” لم يَكُن قد قدَّم لزبائنه أنواعاً من “التشيز كيك” على مقاسات رجال الأعمال وممثلي الشركات الذين يجُوبُون المقاهي في شارع الحب وشاطئ القرم وسي.سي.سي.
وَمَع توسُّع نَشاط القهوة، فإنَّ الحاج خميس قد استعَان بطاقم من الطهاة والخدم، كما ازدادتْ كميَّة الحليب المستخدَمَة في أنواع من الطهي؛ إذ اعتمدَ على ناصر شنون الذي اشتهرَ ببيع الحليب الآتي من مزارع الرعي في روي، وجعلَ من الطُّهَاة البارعين -أمثال: أحمد البركاي، ومُحمَّد البركاوي (حيث جاء بهما من بركاء)، ومُحمَّد جان البلوشي، ومراد بخش البلوشي) من جبروه) ، وشعبان البلوشي) من حلة الدكة- عماد القهوة التي قامت على جهدهم وأدائهم)، وكانوا يدَ العون والسند للحاج خميس عند بَدء العمل بهذه القهوة التي ذاع صيتها حتى عند الخليجيين، الذين كانوا يملؤون ساحتها وهم يأتون إلى مطرح للتجارة.
كَمَا لَحِق بهم -وعلى فترات مختلفة- حيدر قمبر موسى العجمي، الذي عمل واجتهدَ وبَرَع، ومن ثمَّ استقلَّ بالمهنة، وفتح له مقهًى على الخط البحري، ونافس فيما بعد الحاج خميس.. وَمَع التوسُّع في المهنة، فتح له فرعاً مُستقلًا في الشجيعية على رأس شارع عند محطة التكاسي، وأصبح مع الزَّمن صاحب أكبر مقهى عرفته مطرح بعد 1975م، حين أغلق الحاج خميس قهوته.
وَلَنْ تَنْسَى الذَّاكرة كلًّا من: جُمعة سلطان قاسم، وعبدالرضا مختار، ومُحمَّد عبد الحسين يحيى، والأخير غَادَر في الستينيات إلى البحرين، ومن ثمَّ إلى أبوظبي، وتعلَّم وثابر ورجع إلى عُمان وعمل في وظائف مختلفة، واليوم -وبحمد الله- أصبح من الميسورين، وصاحب تجارات ومال وخيرٍ عَمِيم، ولن تُنْسَى أيامه ومحيطه؛ حيث إنَّ نواله يعم المحتاج والمعوز، لا سيَّما من الأهل والأقربين.
هَؤُلاء لم يتدرَّبُوا في المعاهد المُخصَّصة للطُّهَاة والنَّوَادل. كما أنَّهم لم يتعلموا “خدمات الزبائن” في أوروبا وبلاد الشرق، أو في الكليات السياحية التي تتَخصَّص في تدريب وتأهيل الكوَادر لخدمة الزبائن مع (الإيتيكيت). هَؤُلاء تعلَّموا في مَيادين العمل (on the job training)؛ فعلى رَأس العمل تعلَّموا وتدرَّبوا، وحاجتهم للعمل كانتْ هي الأساس لدَفْعِهم للعمل؛ إذ لا الشهادات كانتْ تشفع، ولا القوى العاملة كانت تُسجِّل البيانات، وتبحث عن مواقع، وتحدِّد سُقُوف الرَّوَاتِب والمزايا.
كَانَتْ قهوة الحاج خميس مَصْنعًا للرِّجال الذين عَمِلوا معه، وممَّن تركه فإنه إمَّا أسَّس له قهوة، أو تبوَّأ مكانةً ومواقعَ رائدة في دُنيا المال والأعمال، فيما ذَهَب الباقون إلى ربِّهم، بعدما عاشُوا وكبرُوا، وأخذ منهم العُمر مأخذاً.
كَان الحَاج خميس، وَمَع سَاعَات السَّحَر، وقبل أنْ يبدأ الصُّبح في الانبلاج، يُصلِّي صلاة الليل (النَّوَافِل)، وما إنْ يتنفَّل منها، فإنَّه كان يستيقظُ ابنه أحمد، ويذهب به إلى حَيْث القهوة، فيما تخرج العربة المُحمَّلة بالحليب من وَرَائِهم، يجرُّها أكثر من عَامِل عِنده حتى تصلَ بهم إلى رز القهوة.
يَخْرُج الوالد مع ابنه في غلس الليل، والنَّاس نِيَام، وعبر الدروب القديمة، ومع الأتربة من زقاقات جبروه، فالزافية، فالكمبار، فحلة الهُنود، حتى قلب نازي مويا، فإنَّ الأب والابن كانا يتخطَّيان مَحَاليق أبواب البيوت جُلَّها من السعف، فيقفان على عتبات المسجد الصغير (الإمام الحسن عليه السلام)، ويَسْمَعان تَراتيل مُقدِّمات أذان الفجر على جلجلةِ صَوْت شعبان زعاب الذي تعهَّد شأن المسجد وخدمته لسنوات طوال، فيسبغان الوضوء ثمَّ يَجدان السير عبر سوق الصاغة فسوق الصغير) الظلام) عبر بوَّابة جلاب سمپت، مُرُورا على دَكَاكين مُحسن علي ومگن لگوه وجواد سلمان ناجواني، مُعبرين دكاكين معلم مزار، وإسماعيل تمباكي، وجواد سلمان ناصر، حتى آخر دُكان من دَكَاكين السُّوق، وإلى عَتَبات القهوة، فيُصلِّيان في فناء القهوة، ومن ثمَّ يتوزَّعان الأدوار من العمل؛ حيث الابن كان يَذْهَب إلى مَعقل الحطب ليأتي بجزلٍ من الحطب يحملها درباد خميس، فيما الأب يدعو العاملين لاستخراج مِرْجَل السخانة )كيرجيه) من السَّحارة، فإنَّ إعدادها كان يتمُّ قبل مُغَادرة القهوة مساءً، وتودع مخزنةً في حِرز مُغْلَق حتى الصباح.
وَيْبَدأ إعدادُ الشَّاي الذي لم يكُن لتطفِئ مَوَاقِده مُنذ أولى سَاعَات النهار والشمس وقتما تُشرق حتى مَغِيْب الشمس؛ فالعدَّاد يبدأ مع أول النهار، ويتسابق مع الزمن بخُطًى مُتَلَاحقة، ولا يخمد لهيب المرجل المحمول على جَمْر السمر، وعلى الأثافن من حصباء الأربق حتى يُؤذِّن الحاج الماس مسعود في المسجد الكبير، وكان بصَوْتِه الجهوري يخترق حُجُب أولى سَاعَات غَسَق مطرح، فيصل إلى مَسَامِع الحاج خميس ذاك الصَّوت المجلجل، ومع ترانيم صَوْتِه يرخِّص الحاج خميس عماله وطبَّاخيه بالرحيل إلى بيوتهم لينالوا قِسْطاً من الرَّاحة بعد ساعات من العمل والجهد والكد.
لَقَد اشتهرتْ قهوة خميس عبد الله بأربعةِ أو خمسةِ أصنافٍ من الأطعمة.. فبدايةً: كان الشاي، والسخانة (الكيرجيه)، وشوربة الحلبة، ومرق اللحم، وآبكوشت (ماء اللحم يستخدم مع الخبز على الطريقة الإيرانية وبأسلوب الثريد)؛ فهذه الأطعمة كانت مع بداية مشوار الحاج خميس في مهنته التي بدأها مع أيام الحرب العالمية الثانية.
وفِيْمَا بَعْد، وَمَع المُنَافسين الذين كثُر عددُهم، وفي ذات السوق، وعلى بُعد خطواتٍ من قهوته، كان هُنَاك مطعم رستم العجمي مَعْلمًا بارزًا في بعض الأطعمة، فإنَّ الحاج خميس ارتأى أنْ يختصر مهنتِه بإبعاد كلٍّ من المرق والآبكوشت، وجعل من الشاي والحلبة والسخانة إداماتٍ لمرتاديه، وكانت المراجل فيها تجلس وتُرفع، ولم يكن النوادل وحدهم هم من يعملون في خدمة الزبائن؛ حيث إنَّ الحاج خميس بذاته كان يقوم بخدمة مرتادي القهوة، ولم يستنكف عن غسل الأكواب والملالي والكوز، مُتَعاونًا مع طاقم من العاملين؛ فالجميع كانوا سواءً في العمل.
بِيَديْه كَان يصبُّ الماءَ في الجحال والحبب، ويستخرج من الخراس الكبيرة بالدلاء ساعةً بساعةٍ ليروي عَطَش المرتادين الذين كانوا يقصُدون القهوة من على بُعد مَسَافاتٍ، بجانب إشرافِه على كلِّ المَرَاجل التي كانتْ تغدُو قاعاً صَفْصَفاً، فيُعَاوِد الكَرَّة في الطبخ من جديد. َمَع سَاعَات الظُّهر، كَان الحَاج يَخرُج من قَهْوَاه، ويذهب إلى المَسْجِد الكبير) الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله) ليُصلِّي جماعةً، ويتواصل مع أهله في سور اللواتية؛ إذ وحتى مع عيشه في جبروه كان يصل رحمه وأقاربه هُنَاك، خُصُوصاً بأهلِه من بَيْت المتواني الذي ينتمِي إليه أباً دُوْن أمه التي عاشتْ مع أهلِهَا من العجم، وعاش هو مُلَازِماً لها، فصَار حلقةَ وصلٍ بَيْن الأهليْن، مُرَاعياً البِر بَيْن الوالدين.
وكالة أنباء مطرح
اشتهرتْ سَاحَة خُور بمبه بساحةٍ للأخبار؛ فعلى بُعد أمتارٍ من قهوةِ الحاج خميس، وعلى عرض حائط من محلَّات جعفر باقر عبد اللطيف (محلات فيلبس)، كانت الأخبار تُعْرَض مع أول النهار، لتتَّخذ من الحائط بروازًا للعرض.
لَم تَكُن “رويترز” قد عَرِفَت سَوَاحل عُمان بَعْد، كَمَا لم تَكُن بلومبيرج تجس خلال الديار لتَبْحَث عن السَّبق الخبري فتنشُره والناس بعد نِيَام. كما لم نَكُن نعرف الفضائيَّات والمحطات والبروباجندا عبر الصحافة المقروءة والمرئية، والمنحنيات من الإحصاءات والچارتات .كما أنَّ النقلَ المباشرَ الذي نُشَاهِده عبر الشاشات لحظة بلحظة، كان المطرحيُّ قد امتازَ بمُشَاهدات عيانٍ وجهاً لوجه من غير المكاييج والمساحيق. كلُّ شيء كان يُنقل حيًّا على صعيد خور بمبه، وعلى عرفات قهوة خميس عبد الله چوك، دون مُوَارَبات، أو تدليس، أو تزوير في الصور والدبلجات.
كَان مَكْتَب الوَالِي إسماعيل خليل الرَّصَاصي يُنزل الأخبار ساعةً بعد أخرى، وعبر سائقه موسى العجمي، الذي كان يأتِي بالمُلْصَقات ويُثبِّتها على الحائط، وفيها الأحكام والفتاوى، وأخبار المواريث، وحتى أخبار البلد، وما يحصل في أقاصيه وزواياه.
وَمَع هَذِه الأخبار، فإنَّ شركة (Gray Mackenzie)، وباقر عبد اللطيف فاضل، ومن لديهم وكالات السفن، فإنهم جميعاً كانوا يجدون الحائط بروازا لحركات السفن. ومن هنا، فإنَّ عابري السبيل كانوا يجدون في هذه الأخبار مادةً لفهم ما يحصل في هذه المدينة العريقة، فيما التجار كانوا يُتَابِعون أخبارَ السفن وما يهمُّهم من الحمولات والبضائع أكثرَ من أيِّ شيء آخر، ومع ساعة الضُّحَى، كانُوا يَجْلِسون في قهوة الحاج خميس ويحتسون الشاي مع رغا (القشدة) الحليب غير منزوع الدسم، وتحت ظلال الطرابيل، وعلى دِكَك القهوة، وفوق حصرانها المصنوعة من الخوص، وعلى لَسَعَات أيَّام الحِمل (الريح)، ولذة الهيل والزعفران الممزوجيْن بالسخانة، وعلى صَخَب الجالسين على آرائك الكنادل المهترئة، ومشاهد النَّوَارِس والبَجعَات، وحركات السُّفن الآتية من أقاصي الدنيا؛ منها ما كانت تحت (British-India Steam Navigation Co) من دارا ودواركا ودامرا وكوكل وجايا لكشمي ومغل ودريسا وسردانا (السفينة العملاقة)، وسانتيا (كانت تعمل على خط زنجبار)، وكوكل (تعمل على خط باكستان)، وجميعها كانتْ قد صُنعت أيَّام الاستعمار البريطانيِّ، ومنشأ مُعْظَمها الهند، وبشراكة هندية-بريطانية.
كانتْ الأخبارُ هي المَوْضُوع الشَّاغِل للجميع، وهم جميعًا أبصارُهم شاخصة على مَشَاهد من البحر الذي كان يفتح باعيه، ومع السُّفن المتحركة أمام الأعين، وعلى جوانب من البحر المفتوح للعيان، والذي كان مَسْرَحاً لقضاء الحاجة؛ إذ لا حمامات عمومية يَوْم ذاك، وبالأخص في بُيُوت البانيان التي كانتْ تخلُو نهائيًّا من الحمامات، فإنَّ الأخبار التي كانتْ تطغى على كلِّ المشاهد ما تملأ الأسماع ومعها فإنَّ الأعين هي الأخرى كانت مشدُوهة لرؤية كلِّ جديد، وعادة فإنَّ التجار هم من كانوا يأتون بالجديد من الأخبار التي لم تكُن قد أُدْرِجت في الأوساط، وبَقِيَت حبيسةً في دوائر ضيِّقة، ومع أصحاب النفوذ.
هَذِه من مِيْزَات هذهِ القهوة، ولعلَّ السَّبق في نَشْر الخَبَر كان يأتِي بَغْتةً، حتى مع المُتعلَّق به الخبر نتيجةَ تَسْرِيبات مِن مَصَادر مُقرَّبة؛ فعلى سَبِيل المِثَال، وعندما تَقرَّر أن يذهب الوالد ويُرافقه الحاج حبيب جواد عبدالحسين اللواتي، على رأس فريق من الطبَّاخين إلى ظفار، وكان ذلك في مارس من العام 1968م، وبأمرٍ سلطانيٍّ سامٍ، لاستضافة سموِّ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وقبل أن يخرُج الوالِد من مكتب الوالي لإبلاغه بالخبر، فإنَّ الأخبار كانتْ قد انتشرتْ في قهوة الحاج، وإنَّ السَّبْق الصحفي بدأ من على واحدة من دِكَك قهوة الحاج خميس، وأُذِيع النبأ على الجالسين، والخبر لم يَكُن قد نُشِر على الحَائِط حتى وقت مُتأخِّر من النهار.
وَهَكذَا الحالة، وبَعْد أنْ أقلَّت الطيارة السلطانية الخاصة الوالد والحاج حبيب جواد عبد الحسين إلى صلالة، فإنَّ الأخبارَ عنهما قد انقطعتْ على مَدَى ثمانية أيام، وهذهِ هي الفترة التي مَكَثَا فِيْهَا في ظفار، والحالة هذه فإنَّ أوَّل معرِفتنَا عن يَوْم وُصُولِهما قد عَلِمْنَاها عبر قهوة الحاج خميس؛ حيث المُسَرَّب من الخبر قد تمَّ تداوله، وبأدق تفاصيل الرِّحلة مُذ أن وَطِأت أقدام الضَّيف سُمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أرض صلالة، وحتى ساعة مُغادرته.
وَمِنَ الجديرِ ذِكْرُه أنَّ الأغنية المشهورة للمغني مُحمَّد سلطان المقيمي في مناسبة الزيارة، كانت قد انتشرتْ في أزقَّات مطرح، وعبر إذاعة أبو ظبي، وكانت فاكهةً لمرتادِي قهوة الحاج، وكَثُر فيها وعنها الحديثُ الذي غَدَا حديثَ الساعة للمجالس والقهاوي يومذاك.
ويَذْكُر الأستاذ حَسن سعيد مُحمَّد كَيْف أنَّ خبرَ وُصول السلطان قابوس -حفظه الله ورعاه- في سُدَّة الحُكم قد انتشرَ في ساحةِ خور بمبه، وعبر مَسؤُول من بَيْت الفلج، تبعتهُ المقابلات من مُرَاسِل بي.بي.سي لبعض الوُجُوه المتحدثة، وكان هو أَحَدَهم، ولم يَكُن الخبر قد أَخَذ حَيِّزا من النشر إلا عبر بوَّابة خُور بمبه، ومنها فقد أَصْبَح الأمرُ معروفاً بتفاصِيل تحدَّث عنها الشُّهود بشَيء من الإسهاب.
وَكَان عددٌ من تُجَّار مطرح، وعندما كَانُوا يَودُّون معرفة حالة السوق والبضائع الآتية عبر البلدان والسِّلع المتوفِّرة في البخاخير، ومستوى السيولة المتوفِّرة في خزائن كِبَار التُّجار، لا سيَّما من ريالات ماريا تريزا النمساوية، فإنَّهم كانُوا يعمدُون إلى وُسَطَائهم لجس حالة السُّوق بطُرق مدروسة ومنطوية على الدَّهاء، فيلقطون نتفاً ولَمْلَمات من الأخبار، وبجَمْعِها يفهَمُون حالة السوق من خِلَال بعضِ المؤشرات مع رَمْيِهم طُعماً لوسطاء السوق، وعبر الجمادارات، ومن خلال الدَّلَّالين، فتُتَاح لهُم فرصَ معرفةِ أحوالِ الناس والسُّوق والمعروض من البضائع الآتية منها عبر البَاخِرَات، وحجمها، وحجم السُّيولة لدى التجار، وهذا النوع من الفن كان يُجِيده رِجالاته، والقهوة كانتْ المَكَان الأنسب لجَمْع هذه المعلومات، ومن خلال البارعين لفنون جَمْع المعلومات بأساليب مُحنَّكة تنطوي على الدهاء والتحري، ووفق المعلومات المُتَاحة التي كَان يقبض أصحابُها أثمانَها عند جمعها، فإنَّ الوسطاء والدَّلَّالين من هَذَا المستوى، كانوا من المُقرَّبين للتجار، وكانوا المُنتَفعين من وَرَائهم، ولم يَكُن لِيُهمّ التاجر بأنْ يدفع الأكلاف، مادامتْ المعلومة المُحصَّلة كانت مُفيدةً لتجارتِه.
والتُّجَار قَد اعتَمَدُوا على الوُسَطَاء، وهَؤلاء قد أَخْلَصُوا لَهم، ومن التُّجَار من استَعَان بِهِم في تِجَاراتِهم في بَلْدَات عُمان على تنوُّع جُغرافيَّتها وتَضَاريسها، فركِبوا الدَّواب، وجابُوا المدن، وتركُوا من خَلْفهم عَوَائلهم. ومِنْهُم من عَمِل لهؤلاء التُّجَار خَارج حُدود عُمان، وفي ظُرُوف صَعبة للغاية، والتحقوا بمَكَاتِب لهم، وجَابُوا البِحَار، ورَكِبُوا الصِّعاب، وتَقَاسمُوا الرزق، ومع الغربة والقسوة والمغامرة كان لكلِّ مُجتهدٍ مِنْهُم نَصِيب والحَياة، كد وتعب وبذل وعطاء، ومن بَذَل وسَعَى حقَّق ما أراد.
استراحة المُحَاربين
يتذكَّر بن أحمد خميس -والذي كَان عَضُداً لوالدِه- أنَّ النواخذة هم أول من كان يَرْتَاد القهوة في سَاعَات الفجر، وجُلُّهم من الباطنة والشرقية. ويَتْبَعهم من كان يتَعَامل مع أدَوَات الصَّيْد فيذكُر أنَّ مُحمَّد وأحمد وعبد الله الخنجي كانوا يَرْتَادون القهوة مع الفَجر؛ حيثُ مُقْتَضى عملهم كان يتطلَّب تواجُدهم في مَحلِّهم ومكتبِهم على الشَّريط السَّاحلي القريب من القهوة، بجَانِب تعامُلهم مع تِجَارات الأخشاب التي فِي العَادَة تُنزل حُمُولاتها في بَنْدَر مطرح، مع السَاعَات الأولى مِنَ النَّهار. ويأتِي بَعْدهم الجمادارات (سپي، وجموك، وميروك… وآخرون) لأنَّهم أيضًا كَان يتطلَّب عملهم على الميازيين من البَدْء مُبكِّرا، قبل أنْ تبدأ جَمارك مسقط، فيأخذون بالحُمُولات من البَضَائع من البخاخير، وبَعْضُها من فَرضة مطرح، وعلى ظُهُور السُّفن الخشبية الشراعيَّة، حتى مغب؛ حيث جَمارك مسقط.
بَعْد ذَلِك، تَبْدَأ دُفعة الحمَّالين والسَّقائين والكسبة على مُخْتَلف المُستَويات، ومع بِدَاية النَّهار وحتى يَرْتَفع عَمُود الشمس، فيتَنَاولون السَّخانة، ويحتسُون الشَّاي، والبعضُ مِنْهُم كانَ يكتفِي بملة الحلبة في الإناء البلُّوري، ثُمَّ يَهِيم في مُعترك الحَيَاة فيَرْمِي بنفسِه في لهوات الكِفَاح، حتى يَأخُذ مِنْه الجَهْد مَأْخَذه، فيجلِس في زَاوية مِن زَوَايا القَهْوة، وتحت ظِلِّ جِدَارها المُرْتفِع، وعلى مقرُبة مِن دكيتها يلعبُ مع النُّدماء والجُلَّاس لعبة الحواليس، فإنَّ اللعبة كانت تنتشرُ في سَاحَة خور بمبه، ويُمَارسُها التاجر والكاسِب والحمال والهنقري والبشكار والبزاز والسقاء والشمار، وأينما تَحَيَّن المرءُ الفرصةَ تربَّع على الأرض، وجَالَس اللاعبِين من غَيْر تَمْيِيز.. فهُنا الأرض المُشَاع.
هِي نَكْهَة خُور بمبه، وعُنْفوان زَمَانها الذي غَادَر دون استئذانٍ، وبَقِي الوجدان يَسْتَعيد ذِكْرَاها في لَحَظات عَقَارِبها لن تَعُود إلى الوَرَاء، بَيْنَما بَقِي المَكَان شاهدًا على بَانُوراماته، ومن خلال الصُّوَر الحيَّة الباقية في المخيال. وَيَأتِي الزكواني، والمتواني، والنوراني، والساجواني، والجوسباني، والهنائي، والرَّحبي، والأخزمي، والموساني، والعيساني، والجمالاني، والداتاني، والببواني، والسالياني، والزدجالي، والفاضلاني، والمراداني، والمكراني، والشهباري، والميمني، واللالاني، وحتى توبراني، وأسواني، وآخرون من بَنِي بانيان، كانوا يَأتُون إلى قَهْوة الحاج خميس، وإنْ كَان الأمرُ يختصرُ على شرائح مُعيَّنة. وفي أوقاتِ الذروة، فيُفسح لهم المجال على دِكَّة مُقَابل البحر، ومع التَّزَاحم على كلِّ دكك القهوة، فإنَّ الطاولة التي كانتْ تتوسَّط القهوة، ويُوْضَع عليها النثريات من المؤن، كانت تُفرغ من المواد لتتسع المرتادين على قَدْر سِعَة المكان.
وَمَع دُخُول الشَّهْر الفَضِيل، شهر رمضان المبارك، فإنَّ الحَاج خميس كان يُغلق القهوة أمام مُرْتَادِيها، ويتحوَّل في واحدةٍ من سَاحَات مطرح، ويُهيِّئ للقهوة مكانًا مناسبًا، وقد بدأ من أمام معقل الحطب عند دروازة مطرح، وبعد سنوات وجد له مَوْقعاً آخر على مقرُبة من تنُّور حاجي داود العجمي، وعند مقصورة الحاج علي عبد اللطيف فاضل أقام قهوته هناك، ولسنوات طُوَال.
وَمَع هَذا الشَّهر الذي كانَ المطرحيُّ يتَّخذ فيه نَفَسه في أماسيه؛ حَيْث الألعابِ على الشُّطآن الرَّملية وتجمُّعات السَّمر على امتدادِه، فإنَّ الواجهة البحرية كانت تعجُّ بالناس، وكانتْ قهوة الحاج خميس واحدةً من ساحات رمضان المبارك، وتظل تَعْمَل في ساعات المساء حتى بعد مُنتصف الليل، وتقدِّم الشاي والزنجبيل والفرني (حلاوة الرز)، والفالوذة) حلوة گانس). بِجَانِبه، كَان السيِّد مَاجد هاشم الموسوي، وعلى بعْدٍ مِنْه أخوه السيد يوسف، هما الآخران كانَا يُقدِّمان بعضًا من الأطعمة الرَّمَضانية، ولكلّ مُرَتادِيه ومُستَذوِقيه.
المنافسون
بَقِي الحَاج خميس على حَالِه في خُور بمبه، ولسنواتٍ امتدَّت حتى مُنتَصَف الستينيات من القرن الماضي، إلى أنْ دَخَلت كهرباء مطرح في وَاقِع المطرحيِّين، ومعها فَقَد دخلتْ المُبرِّدات في سَاحَات مطرح، وتحيَّن الشباب فرصة دخول السوق.
جَاءَ أحمد عبد الباقي مُحمَّد وفَتَح فِي سوقِ خور بمبه على مقرُبَة من مَحَل إسماعيل كاظم العجمي مقهًى للمبردات، وَجَذَب أعدادًا من الشباب على المُبرَّدات واللبن وشراب الليمون . وَجَاء حَسَن مُحْسِن علي (چكاب) ،وفتح مقهًى في سُوق الصاغة، وعلى مَقْرُبة من مجلس عبدالصمد حبيب فاضل، وعلى نفس منوال أحمد عبد الباقي عبدالرب. وَسَبَق الجميعَ المرحومُ صَادق جعفر حسن؛ إذ بَدَأ مُبكِّرا في بيع المبردات والآيسكريمات، وفي نفس سوق الصاغة، مقابل مجلس عبدالصمد حبيب فاضل، ومقابل الصايغ إسماعيل الميمني. كَمَا أنَّ ماجد هاشم الموسوي، وأخاه السيد يوسف، بدآ ببيع الآيسكريمات مُبكِّرا، ومع استخدام ثلاجات الكيروسين، وفي المرحلة المتقدِّمة من دخول الكهرباء إلى مُعْظَم مطرح مع العام 1964م. إلا أنَّ قهوةَ الحاج خميس بَقِيَت في رِيَادتها، وحافظتْ على زَبَائِنها، ولم تأتِ عليها لَحْظَة انكسارٍ أو تَرَاجُع حتَّى وبعد أنْ التحقَ ابنُه أحمد بالعمل في شركة تاول عام 1963، ثُمَّ إلى الجيش السُّلطاني الذي سبقه إليه أخوه الأكبر عبد الحسين، لكنَّه بَقِي مُلَازماً لوالده بعد سَاعَات الدوام وأثناء العُطَل كَمَن يلازمه ظِلَّه.
بَقِي الحاج خميس مُكَافِحاً، وعلى مدى قُرابة 40 عاماً عَمِل في القهوة حتَّى أنهكَه الضَّعف، وبَدَأ الهُزَال والشَّيب والهَشَاشة تأخذ من قُوَاه، فَتَرَك القهوةَ في العام 1975م، وأَغْلَق بابَها إلى الأَبَد، فيما بَقِي مُلَازماً لأدوارِه الاجتماعيَّة المَعْهُودة؛ خدمةً لإخوانهِ من العَجم؛ فجمع التبرُّعَات لكثير من الأعمالِ الخيرية، وشيء منها للمآتم، ومسجد حمزة في جبروه.
هَذِه الأعمالُ الخيريَّة كانتْ جُزءًا من أعمالِه وهو في ذُرْوَة عطائه وعمله في قَهْوَته، ولم تُفَارقه للحظة، ولعلَّ التبرُّعات السَّخِية التي كانتْ في العَادَة تُجمع في قَهْوَته ولأعمالِ البِر والخير كان المُبَادِر لَها بشخصِه، ومن أناسٍ كانُوا يتردَّدُون على قهوته.
وَلَا أَنْسَى إذْ أنسى قِيَامه بطَبخ “الكيرجي” لَيْلَة عاشوراء داخل سور اللواتية، وعند بوَّابَتهم المطلَّة على البحر، مع نفرٍ من إخوانِه حسن بن يعقوب الزعابي، وأخيه سعيد، وسعيد بن عبد الله الساجواني، وعبد الحسين الندواني، وأحمد جعفر ناصر. خمسة قُدُور من السخانة) الكيرجي) بقيتْ على حَالتِها حتَّى الساعة، ويُعْتَبر الحاج خميس أحد أَعْمَدة طَبْخِها لدى اللواتية، وكَذَلك في مُنَاسَبات أخرى لدى إخوانه العجم الذين لازمَهُم وعَايَشهم مُنذ صِبَاه، وخدم مأتم القاسِم المُلَاصِق لبيته في جبروه، والذي كَان قد بَنَاه أولادُ الزعاب، وبَقِي علي بن يُوسف الزعابي مُلَازِماً له طُوَال سنيِّ عُمْرِه، مُتردِّدا عليه، وعلى مأتميْ سُور اللواتية، وكان يقرأ فيه المقتل صباح عاشوراء، قبل أنْ يَبْدأ في قراءته في المأتم الكبير عند اللواتية، وكان ذَلِك مُنذ أواسِط الستينيات من القرن الماضي.
وَلَم يُفَارِق الحَاج خميس جبروه إلا بَعْد حَرَائق مطرح، والتي التهمتْ مُعْظَم جبرو، وحوَّلتها إلى أرض يباب، وذلك في أبريل من العام 1964م، فرحل إلى نَازي مويا، وفي بَيْت عبد الله بن سليمان شالواني، ولمُدَّة قصيرة؛ حيث رَجِع إلى جبروه، مَرْتَع صِبَاه ومَرَابِع أهل والدته وأم أولاده، وبَقِي هُنَاك حتَّى يوم وفاته.
وَفِي العام 1982، أَذِنَت ساعةُ رحيلِهِ إلى ربِّه؛ فغَادَر الدُّنيا، وبَقِي اسمُه ورسمُه في القلوب، وشيَّعه أقرباؤه وجمعٌ من المؤمنين إلى مَقْبرة اللواتية في جبروه حيث مَثْوَاه الأخير؛ فبقيتْ جبروه مكانًا له وهو حيٌّ، ولَازَم جثمانه لها وهو ميِّت.
وبَعْد مَوْتِه، كانتْ شريكة حياته زوجته فاطمة العجمية قد غَادَرت الحياة بَعْدَه بـ 100 يَوْم، فكأنَّما كانا على مَوْعِد باللقاءِ سريعاً في جنَّاتٍ ونهر، عند مليكٍ مُقْتَدر. وَتَمَّ دفنُها في مَقْبَرة اللواتية؛ لتكُوْنَ على قُربٍ من زوجِها وشَرِيك حياتِها. وللحديث بقية…،
5,094 total views, 2 views today
Hits: 779