قراءة في صفحات النهضة العُمانيَّة
د. صالح بن هاشل المسكري
كاتب وباحث
تدخل بلادنا الحبيبة عُمان، هذه الأيام، عامَها التاسع والأربعين لنهضتها الكبرى، التي قادها مُؤسِّس عُمان الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- في 23 يوليو عام 1970، وانتقلتْ البلادُ معها من مرحلة صعبة كانت تُعَاني فيها صنوفَ الجهل والفقر والمرض، وكادت -بسبب ذلك- أنْ تختفِي من خارطة العالم؛ لانغلاقها الشديد، وتخلُّفها على جميع المستويات: التنموية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية… وغيرها، انتقلتْ بفضل النهضة الشاملة إلى دولةٍ مدنية عصرية مُتطورة تضاهِي دول العالم الحديثة، بل أصبحت أرقى وأجمل وأنظف من كثيرٍ من بلدان العالم العربي والشرق الأوسط، وتتقدَّم على دول العالم الكبرى بحصد الجوائز العالمية من منظمة الأمم المتحدة، والمؤسسات التابعة لها، في المجالات: الصحية، والبيئية، والرقابية، وتقنية المعلومات، والخدمات العامة… وغيرها؛ الأمرُ الذي انعكسَ على مردود جيل الشباب من أبناء الوطن، وحفَّزهم ليصبحوا هم أيضا منافسين حقيقيين يُبازون شباب العالم، وينتزعون منهم المراتب الأولى في المنافسات: العلمية، والثقافية، والأدبية، وأصبح لعُمان مكانة عالية، وللعُماني شأنٌ وتقديرٌ.. ولله الحمد.
فمُنذ وقت مبكر، اتَّضحت أولويات ادارة الحكم، وبدا الإصرار والتحدي واضحيْن في تطلعات صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- قائد المسيرة المباركة، نحو التغيير والتطوير، وثقته العالية بشعبه حينما قال في خطابه في العام 1973م: “إن الأيام في حياة شعبنا لا تُقاس بوحدات الزمن، وإنما بوزن ما تفتحهُ من آفاق، وما تلهمهُ من أفكار، وما حولته من آمال إلى واقع حي”، ثم قال: ”إنَّ الذي تحقق على الأرض العُمانية أقوى وأعلى صوتا من أي أقوال، وأنَّ الذي أُنجز أروع وأصدق من أي كلام، وسوف نستمرُّ ونعمل من أجل هذا الشعب الأبي، من أجل عُمان العزيزة، وسوف نحقق بإذن الله الكثير، ونحن على الطريق سائرون، وعلى هدى رسول الله ماضون”.
بهذا الإصرار والتحدي، وهذا المعيار العالي من الحُكم، قاد جلالة السلطان مسيرةَ النجاح والتنمية في مختلف المجالات: الصحية، والتعليمية، وفي مجال الرعاية الاجتماعية، والتنمية البشرية، والاتصالات، والطرق، والمياه، والكهرباء، وكثير من أسس وقواعد البنية الأساسية للحياة المعاصرة، والمجالات الأخرى التي لا يتَّسع المقال لذكرها، ويلمسُها الجميع.
مع هذا نقول: إنَّنا إذ نُؤمن ونسلِّم بأن مكاسب ومعطيات النهضة كبيرة وكثيرة، إلا أنَّ هذه النهضة وكأيِّ عمل أو مشروع إنساني وقعتْ في بعض الأخطاء، وإن كانت أخطاء غير مُؤثرة على السياسة والمصالح العامة، أو على معيشة المواطنين ورفاهيتهم واستقرار حياتهم، ونرجو أنْ لا تُؤثِّر مستقبلاً على مسيرة البلاد في مراحلها الانتقالية المقبلة، وعلى الأجيال القادمة أن تجدَّ وتجتهدَ لتحافظ على مكتسبات الدولة وأمانات الوطن، وتواصِل العمل والعطاء ليتضاعف الإنجاز، وتضيف إليها مكاسب أخرى كبيرة في المستقل، وتتجاوَز ما تعرَّضت له النهضة الأولى من أخطاء.
لَقَد قدَّم جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- كما أسلفتُ معيارًا عاليًا في الحُكم؛ سواءً من خلال إدارته للدولة العُمانية داخليًّا، وما يتمتع به شخصيًّا من حضورٍ عالٍ جدًّا، وحبٍّ فيَّاض من كافة المواطنين، ومن القيادات السياسية حول العالم، وما تَحقَّق بمتابعته الشخصية من تنمية كبيرة ونهضة شاملة للبلاد، وما انتهجه جلالته من فكر مُتقدِّم للسياسة الخارجية، جعل عُمان محلَّ احترام وتقدير كافة بلدان العالم، على اختلاف أنظمتها وتوجهاتها، وجعلتها بلداً صديقاً مُحبًّا لكافة الدول والشعوب، إضافة لتعميق مفهوم التعايش والتسامح بين الديانات والمذاهب المختلفة؛ من خلال تَجْسِير الفجوات بين الثقافات والأيديولوجيات المتباينة، وبين أتباع الديانات المختلفة؛ للالتقاء على أرضية إنسانية مشتركة.
وقد أشادَ التقريرُ السنويُّ للحريات الدينية في العالم للعام 2012م -والذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية (ولسنا هُنا بحاجة لشهادة أحد إنما على سبيل الذكر)- بجهود السلطنة في مجال محاربة التطرُّف الديني وتعزيز الحريات الدينية، وأوضح أن “السلطنة تنتهج رسالة إسلام معتدل ومتسامح”، وهو ما تدلُّ عليه حرية المعتَقَد التي يتمتع بها أبناء الطوائف الدينية المختلفة في السلطنة؛ حيث يمارسون شعائرهم الدينية دون تضييق وفي أماكن متاحة للجميع.
وحيث إنَّ الدراسات أو المقالات لا بُد لَها من مَوْضُوعات تطرحها للنقاش، وتحاول أنْ تبحث لها عن حلولٍ أو على الأقل المساعدة في إيجاد الحلول، فإنَّ هذا المقال الموجَز سوف يُناقِش مسألتيْن مهمَّتيْن من وجهة نظري، وأترك أمرَ إقرارها للمسؤولين المختصين.
- المسالة الأولى: تتعلق بالمركزية في القرار الحكومي؛ حيث لا تُتيح كثيرٌ من الوزارات الخدمية لإداراتها العامة في المناطق مساحةً للقرار الإداري، وترجع بهذا القرار إلى الوزير، أو وكيل الوزارة في مسقط، وهذا بِلا شك يُعيِقُ إنجازَ كثير من المعاملات، ويضيِّع الوقت، ويُرَاكِم العمل أمام رئيس الوحدة ونائبه بمسائل يُمكن حَسْمُها خارج المركز. وإضافة إلى ذلك، فإنَّ هذا الأسلوب الإداري يُضْعِف مكانة الإدارات المحلية، ويُفقدها الثقة أمام الجمهور عندما لا يستطيع المدير العام للبلديات، أو الإسكان، أو التربية والتعليم، أو الصحة -على سبيل الذكر لا الحصر- أن يُقرِّر مصلحة من المصالح الملحة في المحافظات إلا بعد موافقة الوزير أو الوكيل المختص. ومع تطوُّر النظام الإداري للبلاد، ووجود المحافظات، يُفتَرَض على الوحدات الحكومية أن تواكب هذا التطور، وتسارع نحو تطوير تشريعاتها وآلياتها.
إضافة إلى ذلك، فإنَّ الحكومة أصبحتْ في وضع لا تُحسد عليه، وهي تقفُ بين المطالب والرغبات الشعبية، مدعومة بتوصيات السلطة التشريعية في البلاد “مجلس عُمان”، وبَيْن ما يتوافر لهذه الحكومة من صلاحيات وإمكانيات: بشرية، وفنية، ومالية؛ ففي الوقت الذي يتعرَّض فيه مجلس عُمان للضغوط والانتقادات المباشرة من المواطنين؛ كونه مُمثلهم -خاصة مجلس الشورى، وبدرجة أقل مجلس الدولة- تظلُّ الحكومة في حالة انتظار وترقُّب وسُبات، ولا تستجيب لمطالب المواطنين وملاحظاتهم إلا كردَّات أفعال، أو من أجل تنفيذ أمر وتوجيهٍ سامٍ تكون معه مُجْبَرة على التصرُّف، ومن خلال متابعتي لأداء الحكومة خلال أكثر من أربعين عاماً، أراها للأسف لا تَمْلُك مجسَّات وقرون استشعار عن بُعد لما يَحْدُث على الأرض من متغيرات ومستجدات، ولا تتبنَّي سياسة المبادرة، وطرح الأفكار والبدائل الذكية التي تسبق المطالب الشعبية أو القطاعية، وهذا يُعرِّض الجميع للرَّبْكة والحَرَج، وقد يفجر الأزمات في المستقبل.
فلا بُد للحكومة أن تُطوَّر من سياساتها، ومناهجها، وتعاملاتها مع المواطنين والمقيمين، ولديها مجموعة مؤهلة وكافية من الموظفين “التكنوقراط” أصحاب التخصُّصات الدقيقة، عليها أن تعترف بقدراتهم الإبداعية والعلمية، وتمنحهم الفرصَ للمشاركة الحقيقية في إدارة البلاد، ولا تعمل على إقصائهم وإجبارهم على التقاعد؛ لأنَّهم يحملون فكراً مختلفاً عن فكر المسؤول وبطانته، وتفريغ السلطات لهم والثقة بعطائهم وأمانتهم، خاصة أولئك الذين يعملون في المحافظات، وأن لا يكون المسؤول في المركز وحده هو الحريص على أمانة العمل والحارس لمكتسبات الوطن؛ لأنَّ مع وُجُود المركزية والهيمنة الإدارية ستفقدُ الكثير من المؤسسات هيبتَها واحترامَها، ورُبَّما تدخل في أزمةِ ثقة مع جمهور المراجعين ومع الهيئات والمنظمات الدولية، ولا يغُرنَّكم الشهادات والكؤوس والجوائز التي تأتِي بها بعض الوحدات والهيئات من الخارج، والتي لا تُغنِي من الحقِّ شيئاً.
إضافة لذلك، تحتاجُ الحكومة إلى مُتحدِّث رسميٍّ يخرج للشركاء الحقيقيين -وهم المواطنون- بالتوضيحات الصادقة، والتعليقات الصائبة لما تتمخَّض عنه اجتماعات مجلس الوزراء، والمجالس واللجان والهيئات المتخصصة الأخرى، من قرارات وتوصيات، بدلاً من إقرارها وإصدار التعميمات المقتضبة المُرْبِكة لتنفيذها، وتَتْرك الشريك الأضعف -أي المواطن- يُنفِّذ الأوامر والتعميمات، وهو يضرب أخماسًا بأسداس، لا يعلم مُنطلقها وأهدافها، ولا يرى من وجه الحقيقة الماثلة أمامه إلَّا التنفيذ فقط.
- المسالة الثانية التي أودُّ أن أطرحها بتجرُّد، وقد تجاوزنا عشرين عاماً على صدور النظام الأساسي للدولة؛ تتعلق بأهمية تطبيق نظام الرقابة على دستورية القوانين في البلاد؛ فلا يُتصور أن تكون هناك سيادة كاملة للقانون إذا كان القضاء لا يستطيع أن يتصدَّى لقاعدة قانونية؛ سواء صدرت عن سلطة التشريع، أو عن السلطة التنفيذية؛ لكي يُعلن أنها مخالفة للدستور أو مُوافقة له، وقد ظَهَر مفهوم الرقابة على دستورية القوانين في المادة 70 من النظام الأساسي للدولة، وأكَّدته بعد ذلك المادة العاشرة من قانون السلطة القضائية الصادر عام 1999م، ومضى حتى الآن تسعة عشر عاما على صدور قانون السلطة القضائية في البلاد، ولم تأتِ الحاجة بعد للهيئة القضائية -المنصُوص على تشكيلها في المادة العاشرة من القانون- أن تلتئم سوى مرة واحدة عام 2009، من أجل بحث قضايا تتعلَّق بتنازع الأحكام والاختصاص، ولم تبحث الرقابة على دستورية القوانين رغم أهميتها.
وكما هُو معلوم، فإنَّ الرقابة على دستورية القوانين تُعتبر الضمان الحقيقي لتنفيذ القاعدة الدستورية، والحارس لمبدأ الشرعية، التي تُعنى بأن يسود القانون بمعناه العام كل سلطات الدولة، كما أنَّها تحافظ على الحدود الدستورية للسلطات، وهي خير ضمان ضد تعسف السلطة التشريعية؛ حيث إن أغلب البرلمانات لا تتمتَّع بالكفاءة الفنية اللازمة، وهي سيّدٌ من السهل استغفاله “كما يقول الفقيه جيز”، والرقابة أهم ضمانات الحرية، وذلك بحماية وتطبيق مبدأ الحقوق الفردية وحماية الحريات المدنية والسياسية لأفراد المجتمع.
وعندما لا أرَى أهميَّةً الآن لقيام محكمة دستورية عُليا مُستقلة في البلاد؛ لأسباب قانونية ومالية وإدارية مختلفة، فإنَّني أناشد الجهات المختصة بأهمية البدء في تفعيل الهيئة المشار إليها في المادة العاشرة من قانون السلطة القضائية الصادر عام 1999، والمعدل بالمرسوم السلطاني رقم 14/2001، وتفعيل المادة الحادية عشرة من هذا القانون؛ من أجل تطبيق نظام الرقابة على دستورية القوانين في السلطنة، ولو من خلال النظام القضائي القائم في السلطنة، وهناك مُؤسِّسات في الدولة يُمكنها أن تُبادر لهذا العمل كمجلس عُمان -على سبيل المثال- بتشكيل لجنة من قانونيين في مجلس الدولة، تُعنى بالرقابة على الدستورية، وصيانة النظام الأساسي للدولة، وهو نظامٌ معمولٌ به في كثير من المجالس البرلمانية الأولى في العالم، أو أنْ تتولَّى المحكمة العليا هذه المهمة بحُكم اختصاصها في الرقابة على دستورية القوانين وفق قانون السلطة القضائية، أو تشكل لجنة مُستقلة مُتخصصة في المجال القانوني والدستوري على وجه الخصوص، كلُّ هذه بدائل متاحة للبدء في تطبيق نظام الرقابة على دستورية القوانين في سلطنة عُمان، وحماية النظام الأساسي من القوانين واللوائح والأوامر الإدارية التي تتعارض مع مواده ومبادئه.
ونؤكِّد أنَّ تطبيق نظام الرقابة على دستورية القوانين سيُشيع أجواءَ الثقة والطمأنينة لحماية الحقوق والحريات المدنية والسياسية، ويُحصِّن النظام الأساسي للدولة من تغوُّل السلطات التنفيذية والتشريعية عليه، ويكُون هذا النظام كما يجب أن يكون في المرتبة الأولى من تسلسل القاعدة القانونية فعلاً وعملاً، لا مُجرَّد متكئ يشار إليه في كل قانون عادي يتم صدوره، وبهذه المناسبة أشير إلى أهمية العمل على تأهيل عدد مناسب من القانونيين الدستوريين العُمانيين ليكونوا قضاةً ومستشارين دستوريين في المستقبل، وحمل راية الدستورية في البلاد.
وختاماً نقول: إنَّنا نحتفلُ -ولله الحمد والمِنَّة- بالعام الثامن والأربعين لنهضة عُمان المباركة، وبلادنا تنعمُ بالأمن والاستقرار والرفاه والرخاء في إقليم مُضطرب سياسيًّا وأمنيًّا، وفي ظروف استثنائية، لا نملكُ سوى أن نرفَع أكفَّ الضراعة إلى الله -عزَّ وجلَّ- ونبتهل إليه بأن يحفظ بلادنا عُمان بتمام الرخاء ودوام الأمن والسخاء، وأن يحفظ جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، ويُسبغ عليه ثوب العافية، ويَمُنّ عليه بالخير، ويكشف عنه الضراء، وأن يُبارك في حياته، ويبقيه لعُمان وللأمة الإسلامية، وأن يُوفِّقه لكل ما فيه الخير، ولكل ما فيه خير البلاد والعباد.. إنَّه تعالى على كل شيء قدير.
3,066 total views, 2 views today
Hits: 138