روَّاد الجَوْدَة
د. سلوى بنت عبد الأمير بن سلطان
يَشْهَدُ عالمُ اليَوْم في الألفيَّة الثالثة تغيُّرات مُتسَارِعة، لم يَكُن لها مثيل من قبل؛ من حيث سرعتها وتأثيرها في جميع مجالات الحياة باختلاف أنواعها.. فما يُوَاجِهه التعليمُ اليوم من تَحَدِّيات -مثل: التقدُّم التكنولوجي، وسرعة نمو العلوم والمعارف- يَحْتَاج مسيرةَ تغيير مُتَسَارِعة في المَيْدَان التربوي والتعليمي.
وَلِتَحقِيْق الجَوْدَة في التعليم، اهتمَّ التربويون بتطبيق المداخل الإدارية المعاصرة، خاصة مدخل إدارة الجَوْدَة الشاملة، الذي يُركِّز على تقديم أفضل الخدمات التعليمية لكل المستفيدين من المؤسسات التعليمية؛ عن طريق تحسين أداء المعلمين في داخل الصفوف، وإعادة النظر في القصور الموجود في المناهج الدراسية، وتطوير أداء الإدارة المدرسية، وضمان الارتقاء بمستوى تحصيل التلاميذ الدراسي، والارتقاء بجميع جوانب العملية التعليمية والتعلُّمية، ومُساعدتهم على الالتحاق بالجامعات لضمان مُخْرَجات تعليمية تعمل بكفاءة وإنتاجية في سوق العمل.
وَقَدْ حقَّقتْ المؤسسات الإدارية الحكومية والخاصة نجاحات كبيرة، إثر تطبيق أسلوب إدارة الجَوْدَة الشاملة، في بعض الدول المتقدمة؛ مثل: اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وأَصْبَح هذا الأسلوب في الإدارة يُلَاقِي اهتمامًا كبيرًا من الباحثين والدارسين، فقدموا الكثيرَ من المساهمات لتبنيه وتطبيقه.
فَمَا مَفْهُوم الجَوْدَة لغةً واصطلاحًا؟ وَمَنْ أهم مَنْ نَادُوا به؟
يَرْجِعُ أَصْلُ المصطلح إلى الكلمة اليونانية (Qualitas)، وتعني: طبيعة الشخص، أو طبيعة الشيء ودرجة صلابته، وقديمًا كان يشير إلى الدِّقة والإتقان في البناء.
وَلُغَةً: اشْتُقتْ كلمة “الجَوْدَة” من الفعل الثلاثي “جاد”، وورد في المعجم الوسيط: جاد- جَوْدة أو جُودة (بفتح الجيم أو ضمها) أيْ: صار جيدًا، يُقال جادَ العمل، فهو جيد.. فالمعنى اللغوي يتضمَّن الأداءَ الجيد الذي يبلغ حدا فائقًا. ومن مرادفات الجَوْدَة: الإتقان، ويدل على إحكام الشيء.
أَمَّا اصْطِلاحًا، فَقَدْ جَرَت عِدَّة مُحاولات لتعريف مفهوم الجَوْدَة، وكانت كل محاولة تتولى إبراز سمة معينة تقوم بالتمحور حولها، إلا أنها لم تخرج عن تعريفه من أربعة مداخل؛ فمنهم مَنْ عرَّفها باعتبارها مرادفة للتفوق والتميز، ومنهم من عرَّفها بدلالة نظرية النظم، أو كتحقيق للأهداف، أو طبقًا لنظام المواصفات القياسية. وفيما يأتي بعض تعريفات الجَوْدَة على سبيل المثال لا الحصر:
فَبِاعْتِبَارِها مرادفة للتفوق والتميز، عرَّفها عالِم الجَوْدَة كروسبي (Crosby) على أنها: “المطابقة مع المتطلبات”، كما تعني: “مدى ملاءمة المنتج للاستعمال” (Fitness of use).
أَمَّا تَعْرِيفها طبقًا لتحقيق الرسالة المحددة، والأهداف الموضوعة سلفًا، فقد عُرِّفت على أنها: “قدرة المؤسسة على تلبية احتياجات الزبون بما يتناسب والأهداف المنشودة”.
وَعَرَّفتها المواصفة البريطانية للمقاييس (British Standard) على أنها: “مجموعة من الخصائص والملامح المتصلة بالمنتج أو الخدمة التي تُظْهِرُ مَقْدِرتها على إرضاء الحاجات الصريحة والضمنية للمستفيدين”.
وَطِبْقًا لنظام المواصفات القياسية، عرَّفتها المؤسسة الدولية للمقاييس -وهي أكبر منظمة دولية مُهِمتها توحيد المقاييس، ومتخصصة في صياغة المواصفات الدولية وإصدارها، وهي عبارة عن اتحاد عالمي، مقرُّه جنيف، ويضم في عضويته أكثر من 160 هيئة مقاييس وطنية- (Standardization Organization International) “الآيزو” “ISO” على أنَّها: “الدرجة التي تُشْبَعُ فيها الحاجات والتوقعات الظاهرية والضمنية من جملة الخصائص الرئيسة المحددة مسبقًا”.
وَيتَّضِح مِمَّا سَبَق أنَّ هناك تعددًا في الآراء حول مفهوم الجَوْدَة؛ لما يحويه هذا المفهوم من عناصر مختلفة، فيُركِّز بعضها على تلبية احتياجات المستفيد، بينما يركِّز الآخر على الخدمة المميزة، أو التحسين المستمر في الأداء والإنتاجية، أو إتقان العمل، وعلى الرغم من التنوع في طرح هذا المفهوم، فإنه ينبغي النظر إلى هذه التعريفات على أنها مكملة لبعضها بعضًا؛ وتستند إلى جودة النظام ككل؛ فجودة العمل والإتقان فيه يؤديان بالضرورة إلى جودة المنتجات.
وَهُنَاك العديدُ مِنَ العلماء والباحثين الذين لعبوا دورًا فعَّالاً، ولهم بَصَمَات مميَّزة في نشر ثقافة الجَوْدَة، ونتناول فيما يأتي أبرز هؤلاء الرواد:
1- وولتر شيوارت (Walter Shewhart):
يُعَدُّ الرائدُ الأمريكيُّ الأوَّل الذي أدخل الرقابة الإحصائية للجودة في الأنظمة والعمليات الإنتاجية، نشر كتابًا في عام ألف وتسعمائة وواحد وثلاثين (1931م) بعنوان “Economic Control of Quality Manufactured Product”، وقد ميَّز بَيْن نوعيْن من الجَوْدَة: الجَوْدَة الموضوعية، والجَوْدَة الشخصية؛ فالجَوْدَة الموضوعية تعني: جودة الأشياء كحقيقة قائمة بذاتها، مستهدفة ومستقلة عن الوجود الإنساني. أما الجَوْدَة الشخصية، فتعني وجود الأشياء المنسوبة لمشاعر الإنسان، كنتيجة للحقيقة الموضوعية. وأكَّد شيوارت أنَّه ومن غير الممكن لشيء من الأشياء أنْ يكون له جودة مستقلة، دون الرغبات الإنسانية، وأوضح أهمية وجود عامليْن لتحقيق الجَوْدَة: التفكير بطريقة موضوعية حقيقية، وتعلم كيفية التفكير والشعور.
2- أرموند فيجنبوم (Armond Feigenbaum)
يُعدُّ أوَّلَ مَنْ أرسى دعائم الجَوْدَة الشاملة، واشتهر بإبداعه في تقديم مفهومي التحكم والضبط في الجَوْدَة (Total Quality Control)، وطرح عنصرين أساسِييْن لتحقيق الجَوْدَة الشاملة كإستراتيجية في العمل: أنْ يكون الهدف الرئيس للجودة هو تحقيق رضا المستفيدين، وأنْ يعمل جميع الموظفين لتحقيق أهداف وضعتها المؤسسة.
وَهُوَ مِنْ أوَّل الخبراء الذين تمكنوا من مراقبة الجَوْدَة الشاملة، ورَأَى أن الجَوْدَة هي قدرة المُنْتَج على تحقيق الغرض المنشود منه بأقل تكلفة ممكنة، ونادَى بالمسؤولية الجماعية، وبأن الجَوْدَة لا بد أن تشمل كل الوظائف في المنظمة. وتركزت فلسفته على جعل الجَوْدَة أسلوبًا للإدارة، وعملية أخلاقية، والتطوير المستمر للخدمات، والسعي لتخفيض الكلفة، على أنْ توفر المؤسسات الحماس لدى أفرادها، وتعمل على نشر ثقافة العمل الجماعي على نطاق واسع، ويكون إرضاء المستفيدين من أولويات الجَوْدَة.
وَكَغَيْره من علماء الجَوْدَة، فقد أكَّد أهمية أنْ يكون التدريب المقدم للموظفين فاعلًا، وعلى أنْ يكون من العناصر الأساسية لإدارة الجَوْدَة الشاملة، ويركِّز فيهما على ثلاثة مجالات حيوية؛ هي: تطوير الإنتاج، وتقديم معارف، وتقديم مهارات جيدة للموظفين.
3- وليام إدوارد ديمنج (Deming William Edwards)
يُعدُّ ديمنج الأمريكي من الاختصاصيين البارزين في عمليات تحسين الإنتاجية والجَوْدَة، كان يعمل أستاذًا في جامعة نيويورك، لُقِّبَ بأبي ثورة نظرية الجَوْدَة الشاملة، والأب الروحي لرقابة الجَوْدَة، وتعلم من العالم شيوارت المفاهيم الأساسية للسيطرة الإحصائية على الجَوْدَة، وحصل على الوسام المخصَّص باسمه في العام 1956م، كما قلده إمبراطور اليابان هيروهيتو في العام 1960م، وسامًا رفيعًا تكريمًا لدوره في الجَوْدَة.
وَتَعَاوَن ديمنج مع شيوارت لتعليم رجال الأعمال اليابانيين كيفية زيادة إنتاجية الموظفين؛ باعتماد نظام إحصائي لضبط الجَوْدَة عبر مراقبة وحدة الإنتاج، ويقوم هذا النظام على أساس اكتشاف الإشكاليات في عمليات الإنتاج، وإزالة أسبابها بحسب عمليات إحصائية، تَضْمَن تحقيق التطوير المستمر في المنتج.
وَتَقُوْم طريقة ديمنج على توظيف فنيات إحصائية تحقِّق التحسين المستمر في الناتج، واكتشاف المشكلات، وإزالة أسبابها أثناء الإنتاج، وليس بعده، وابتَكَر ما يُسمَّى بـ”دائرة ديمنج” المعروفة (PDCA)؛ وتتلخص في أربعة حروف أُخِذَتْ من الخطوات اللازم القيام بها؛ وهي: خطط (Plan)، واعمل (Do)، وافحص (Check)، ونفِّذ (Act).
وَقَدْ نَالَ نجاح نظرية الجَوْدَة الشاملة التي أطلقها ديمنج في اليابان الاهتمامَ الأمريكيَّ من حيث التركيز على العميل، والرغبة في تفويض العاملين السلطة، وضرورة وجود منتجات ذات جودة عالية، واختيار القيادة الفاعلة التي تتسم بالديمقراطية، وتعمل على تنمية مفهوم الجَوْدَة وثقافتها لدى العاملين في المؤسسة، وتقوم بتحديد الاحتياجات المادية والبشرية اللازمة، والاهتمام بالرقابة الذاتية، والتقويم الذاتي.
وَتَركَّزتْ فلسفته في خمسة مجالات؛ هي: المبادئ الأربعة عشر لإدارة الجَوْدَة، والأمراض السبع المميتة، والمعيقات الستة عشر، والمناخ الجديد، ونظام المعرفة العميقة. ويرى أن الأمراض المميتة في المؤسسات هي: عدم استقرار الهدف باتجاه التحسين المستمر، والتركيز على الأرباح قصيرة الأجل لتوزيعها على المساهم، والاعتماد على تقييم أداء العاملين السنوي عبر التقارير والملاحظات فحسب، وعجز الإدارة العليا -نتيجة التنقل المستمر بَيْن الوظائف- والتكلفة الصحية العالية التي تتحملها المؤسسات، وتحمل أعباء قانونية زائدة في حالات الطوارئ؛ نتيجة عدم بناء الجَوْدَة في المنهج من أول مرة.
وَيَرَى ديمنج أنَّ المؤسسة مسؤولة عن بناء الأنظمة الجيدة؛ بما في ذلك تلك المتعلقة بالجَوْدَة، ويقول: إن 85% من الفشل في تحقيق الهدف، أو الوصول إلى الجَوْدَة المطلوبة في المؤسسات، يعُوْد إلى النظام الذي يمكن تغييره من قبل الإدارة.
وَبُنِيَتْ فلسفته على ضرورة التزام المؤسسات بتطبيق مبادئه الأربعة عشر المشهورة، ويمكن تقسيم تلك المبادئ إلى سبعة أمور، على المؤسسات الأخذ بها واتباعها؛ وهي: تحديد أهداف ثابتة لتحسين المؤسسة وخدماتها؛ لتكون قادرة على منافسة الآخرين، وتحافظ على قدرتها في توفير فرص العمل لأفراد المجتمع؛ وتبني المؤسسة للفلسفة الجديدة في إدارة الجَوْدَة الشاملة وتعلمها؛ والعمل على التحسين المستمر لنظام المؤسسة وخدماتها ومنتجاتها عن طريق الجَوْدَة والإنتاجية؛ لأنَّ ذلك يُسَاعد على تقليل السعر، وتأصيل التدريب في العمل لدى كل موظف، وتبني برامج لإعداد قادة المؤسسة على أنْ يكون دور الإشراف تسهيل عمل الأفراد والمعدات، وتطوير برنامج قوي للتعليم، وإعادة التدريب، والتنمية الذاتية لكل موظف، وإشراك جميع الأفراد في التحول المطلوب، على أنْ يكون التغيير مسؤولية كل فرد في المؤسسة.
أمَّا الأمْوْر الواجب إبعادها؛ فهي: الابتعاد عن الاعتماد الكلي على التفتيش لتحقيق الجَوْدَة، والتخلص من الحاجة للتفتيش؛ إذ إنَّ الجَوْدَة لا تتحقق بالتفتيش، ولكنها تتحقق بغرس مفهوم إتقان العمل من أول مرة؛ والتخلي عن فلسفة الشراء بأقل الأسعار، واستبداله بمفهوم البحث عن تخفيض التكاليف الكلية للمنتجات لأدنى حد ممكن، والقضاء على الخوف من التغيير، والعمل على بناء ثقة مُتبادلة بَيْن أعضاء المؤسسة؛ حتى يتمكَّن كلُّ فرد من العمل بفاعلية في داخل المؤسسة، والقضاء على العوائق التنظيمية بَيْن موظفي الأقسام المختلفة، والعمل على نشر ثقافة العمل ضمن الفريق الواحد لحل المشكلات؛ وإبعاد الشعارات غير العملية، والتحذيرات المستمرة بَيْن الأقسام؛ لأنها تؤدي إلى إحباط الموظفين، وتبعد عن تحقيق هدف المؤسسة، وكذلك التخلص من مقاييس العمل التي تؤدي للحسم على الموظفين في المؤسسة؛ أيْ: إلغاء مقاييس العمل التي تفرض حصصًا عددية (Quotas) على الموظفين؛ إذ إنَّ الحصص العددية المحدَّدة في العمل قد تكون على حساب نوعية المخرجات، وقد لا تسمح بالتحسين والتعديل في المؤسسة. وأيضًا القضاء على العوائق التي تحرم الموظفين من التفاخر بالعمل، والإبداع في الأداء، وإلغاء تقويم أداء الأفراد السنوي، والإدارة بالأهداف.
إنَّ المبادئَ الأربعة عشرة لديمنج لا يُمْكِن أنْ تُنفَّذ منفصلة، ولكن يجب تنفيذها مجتمعة؛ باعتبارها مُتداخلة ومُعتمدة بعضها على الآخر، وإذا نظرنا إليها نجد أنها الأساس لجودة أية مؤسسة إنتاجية أو خدمية تَرْغَب في أنْ تحقق أهدافها باستمرار، وبأفضل صورة ممكنة، على أنْ تكون هذه الأهداف دائمة التجديد بما يواكب مُتغيِّرات البيئة المحيطة، وبما يضمن نجاح المؤسسة.
4 – جوزيف م. جوران (Joseph M. Juran)
عَالِم أَمْرِيكي، لُقِّب بـ”المعلم الأول للجودة”، أسهم في تعليم اليابانيين كيفية التخطيط للجودة ومراقبتها وتحسينها، وإنشاء مجلس أعلى -إبان فترة الخمسينيات- وتقلَّد وسام إمبراطور اليابان؛ اعترافًا بفضله في الرقابة الإحصائية للجودة.
وَقَد رَكَّز جوران على التخطيط الإستراتيجي للنوعية، وترجم أفكاره في شكل أطلق عليه “Quality Trilogy” وتعني ثلاثية الجَوْدَة، وتتكوَّن هذه الثلاثية من: تخطيط الجَوْدَة، ومراقبة الجَوْدَة، وتحسين الجَوْدَة؛ بحيث تَطَال العمليات التي تتم داخل المؤسسة، وقد لعبت هذه الأفكار دورًا بارزًا في التنمية، وتطوير مداخل تحسين الجَوْدَة.
وَقَدْ صَنَّفَ جوران المستفيدين من المؤسسات في نوعين؛ هما: المستفيد الخارجي، ويُمثِّل العميل الذي يقتني الخدمات، ولا يكون ضمن أعضاء المؤسسة المَعْنِية، أو أحد العاملين فيها. والمستفيد الداخلي، ويُمثِّل المستفيد الذي يعمل داخل المؤسسة ذاتها.
وَوَضَع جوران عِدَّة خُطُوات مُهمَّة يتعيَّن على المؤسسات اتباعها، كمدخل لتطبيق إدارة الجَوْدَة الشاملة؛ وهي: العمل على بناء الوعي المستمر بعملية التحسين، ووضع أهداف واضحة المعالم وسهلة التحقيق، والعمل على تدريب جميع العاملين، وتبنِّي أسلوب حل المشكلات في المؤسسة، ومتابعة تنفيذ مقترحات العلاج، وتوثيق النتائج المتحققة، والاعتراف بجهود الموظفين المتميزة، والعمل على مكافأتهم، وإعلان النتائج؛ لخلق المنافسة والتوسع في التحسين المستمر، وجعله جزءًا من نظام المؤسسة وعملياتها.
5- فيليب. ب. كروسبي (Crosby B. Philip)
عَمِل كروسبي مُهَندسًا في ولاية فلوريدا الأمريكية لدى شركة “مارتن ماريتا”، وأسهم في مشروع للصواريخ حقَّق مُستوى عاليًا في الجَوْدَة، وعُيِّنَ في العام 1965 نائبًا لرئيس وحدة الجَوْدَة في شركة “ITT”، وأمضى قرابة 38 عاماً مُدافعًا عن مفاهيم الجَوْدَة.
وَوَضَع أربعة معايير لقياس وصول المؤسسات إلى الجَوْدَة الشاملة، وعُرِفَتْ هذه المعايير بثوابت الجَوْدَة الأربعة؛ فالمعيار الأول: يُركِّز على وضع تعريف محدد وواضح للجودة، وهو التطابق مع المتطلبات. والمعيار الثاني: يصف نظام تحقيق الجَوْدَة على أنه الوقاية من الأخطاء بمنع حدوثها، عبر وضع معايير للأداء. والمعيار الثالث: يتم فيه تحديد مستويات أداء الأفراد؛ لمنع حدوث الأخطاء، عن طريق الأداء الجيد من أول مرة. والمعيار الرابع: يعتمدُ على تقويم الجَوْدَة عن طريق قياسها بناءً على المعايير الموضوعة، وحساب تكلفة كلِّ شيء لم يتم القيام به بشكل جيد من أول مرة؛ لحساب الفاقد، وفقدان الزبائن.
وَكَان كروسبي أوَّل من دَعَا إلى أنْ يكون معيار إنجاز الجَوْدَة هو جعل المنتج “Zero defects”؛ أيْ: خاليًا من العيوب، على أنْ يكون هدف الإدارة الدعوة للعمل والإنتاج دون أخطاء، عن طريق الأداء الجيد، وإتقان العمل من أول مرة.
وَرَغْم صُعُوْبة وَضْع حدٍّ فاصلٍ بَيْن ضمان الجَوْدَة، وتوكيد الجَوْدَة الذي جاء به كروسبي، فإنَّ نظامَ ضَمَان الجَوْدَة يعتمد على مدخل الإصلاح بعد الوقوع في الخطأ، وحل المشكلة بعد حدوثها، في حين أن توكيد الجَوْدَة، يعني توقع احتمالات الخطأ، والقضاء عليها قبل حدوثها؛ أيْ: الإيمان بالحكمة القائلة “الوقاية خير من العلاج”؛ مما يُسَاعد على تقليل المفقود، وتوفير الأموال، وزيادة الإنتاجية في المؤسسة.
6- كاورو ايشيكاوا ( IshikawaKaouru)
أسْهَم الياباني ايشيكاوا في الاهتمام بمختلف مجالات الجَوْدَة؛ فحصل على الكثير من الجوائز؛ منها: جائزة ديمنج اليابانية، وعُرِفَ بأنه: مُؤسِّس حلقات الجَوْدَة، وتقوم فكرتها على إشراك الموظفين في تحليل المشكلات، واتخاذ القرارات بتكوين حلقات تطوعية صغيرة تتكون من (4-8) من الموظفين، يمثلون فرق العمل.
ويُدِيْر هَذِه الحلقات مُشْرِف يقوم بتدريب أعضاء المجموعة على الطرق الأساسية لحل المشكلات، وتوظيف أساليب مختلفة، يُطلق عليها الأساليب السحرية؛ وهي: العصف الذهني، وأسلوب باريتو (Parito)، وخرائط المراقبة، والرَّسْم البياني، وتحليل الأثر والسبب، وقياس التشتت، ولوحة المراقبة، ومقاييس التطابق.
وَيَرْجِع الفضلُ في تطوير الاقتصاد الياباني إلى فكرة حلقات الجَوْدَة، وقد أثبتت هذه الفكرة أنها أداة فعَّالة لتحسين الجَوْدَة وزيادة الإنتاجية، وتخفيض الكُلفة في المؤسسة، فضلًا عن أهميتها في تنمية كفاءة الموظفين، وتقليل الأعطال المحتملة في الإنتاج؛ حيث ثَبُتَ أنها تعمل على تخفيض 20% من تكلفة تعليم التلميذ الواحد في أية مؤسسة تعليمية تطبق حلقات الجَوْدَة، التي تركز على اجتماع الأعضاء على نحو منتظم بواقع ساعة أسبوعيًّا.
وَحَاوَل إيشيكاوا التوفيقَ بَيْن فلسفة ديمنج الأمريكية والفكر الياباني للجودة، وهو أول من أدخل مفهوم كايزن (Kaizen) مَدْخلًا للتحسين المستمر في جميع الجوانب في داخل المؤسسة، وكلمة “Kaizen” كلمة يابانية تعني: التغيير الجيد في عمليات المؤسسة وأفرادها، وإجراء التحسينات المستمرة في كل المجالات عن طريق الاعتماد المتبادل بَيْن المنتسبين للمؤسسة.
وَيَرَى إيشيكاوا أنَّ مُشَاركة الموظفين في تطبيق إدارة الجَوْدَة الشاملة مُفتاح النجاح لأية مُؤسَّسة. وبناءً على ذلك، أكَّد ضرورة اهتمام الإدارة العليا بتدريب الموظفين وتعليمهم. إنَّ قصة إدارة الجَوْدَة الشاملة في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ما كانت لتحدث، إلا حينما أصرَّ زُعماء الصناعة اليابانية -وعلى رأسهم ايشيكاوا- على إحداث الجَوْدَة بمساعدة ديمنج وزملائه.
وَيُمْكِن القول بأنَّ تطبيق حلقات الجَوْدَة في المؤسسات التعليمية مُمكِن عبر الإلمام التام بفلسفتها، وأسسها الفكرية، والدَّعم الإيجابي المتواصل من القيادات التربوية والمشرفين التربويين، والمساندة من الإدارة المدرسية، وتَهْيِئة مناخ عمل يساعد على الإبداع، بمنح المزيد من الثقة للمعلمين، ومشاركتهم في حل المشكلات، وتنمية العلاقات الإنسانية مع الإدارة والزملاء، والعمل الجماعي بروح الفريق الواحد الذي تنادي به إدارة الجَوْدَة الشاملة.
7- مالكوم بالدريج ( Malcom Baldrige)
أُقِرَّ نظامُ ضَبْط الجَوْدَة الذي وضعه بالدريج ضمن المعايير القومية المعترف بها لضبط الجَوْدَة والتميز في الأداء بالمؤسسات التعليمية، وَيُشِيْر برنامجه القومي للجودة إلى أنَّ الأخذ بنظام المعايير في التعليم يُحقِّق ثلاثة أهداف؛ فهو يساعد على تحسين الممارسات التنظيمية للأداء التي ترفع من كفاءة نتائج المؤسسات التعليمية المختلفة، والعمل على تسهيل الاتصال وتبادل المعلومات بَيْن المؤسسات التعليمية، كما يَسْتَعملها المديرون أداةً لفهم عملهم، وتوجِيْه عمليات التخطيط وفرص التعلم؛ فهذه المعايير تهدف للارتقاء بالمستوى المهْني والأكاديمي لعناصر النظام التعليمي، وتحقيق جودة التعليم.
وَتَتَكوَّن هذه المعايير من 11 قيمة؛ هي: التعليم محور التربية، والتطوير المستمر، والتعليم المؤسسي، والمساهمة الجماعية، والإدارة بالحقائق، والمسؤولية الجماعية، وأهمية القيادة الفاعلة، ومساهمة هيئة التدريس، والوقاية من الأخطاء، والنظرة المستقبلية للتعليم، والاستجابة السريعة للمتغيرات، والاهتمام بالنتائج (المخرجات).
وَتُركِّز فلسفة بالدريج في جودة التعليم على: أهمية إرضاء التلاميذ وأولياء الأمور عبر الخدمات المقدَّمة لهم، والاهتمام بنتائج الأداء التعليمي، والتركيز على مَنْع التلاميذ من الفشل، بدلًا من دراسة أسباب الفشل بعد وقوعه، والعمل على تنمية الموارد البشرية داخل المؤسسة، والاهتمام بالتخطيط الإستراتيجي في التعليم، وتطوير القيادات التربوية، وبناء شبكة معلومات متطورة، واستعمال الضبط الإحصائي بدقة لتحسين عمليات الإدارة، ونسبة التسرُّب من التلاميذ.
8- وليام إي كونواي (William E. Conway)
يُعَدُّ كونواي من المحدثين في إدارة الجَوْدَة الشاملة، وَظَهَر في تسعينيات القرن الماضي، وَدَعَا إلى نظام جديد في الإدارة، أسهم في النهوض بعملية التحسين المستمر، باعتماد الأدوات الستة الآتية: توظيف مهارات العلاقات الإنسانية في تحفيز الموظفين في المؤسسة وتدريبهم، والقيام بمسوحات إحصائية لجميع البيانات حول المستفيد، وتمثيل البيانات التي جُمِعَتْ بأشكال إحصائية بسيطة، وتشجيع الإبداع في حل المشكلات التي تواجه الموظفين، واعتماد السيطرة الإحصائية على جميع عمليات المؤسسة.
9- جينيشي تاجوشي (Genichi Taguchi)
تاجوشي مُهندس ياباني، ركَّز على توظيف الوسائل الإحصائية لتطبيق مفهوم الجَوْدَة. وتكريمًا له على إسهاماته المتميزة في تحسين أساليب الجَوْدَة، حَازَ جائزة ديمنج للجودة ثلاث مرات في فترات متتالية؛ كانت الأولى في العام 1960م، كما قدَّم له إمبراطور اليابان الشريط الأزرق في العام 1990م؛ لإسهاماته في الصناعة اليابانية.
وَنَظَر تاجوشي للجودة بالمنظار نفسه الذي جاء به كروسبي، على أنَّها تُمثِّل المطابقة للمواصفات المطلوبة. وبالرغم من أنَّ مدخله يُعَد من أَعْقَدِ المداخل، إلا أنَّه أثبت فاعليته وقوته في تقييم تصميم المنتج الجديد، والعمليات الجديدة للمؤسسة. وتتلخَّص فلسفته في الجَوْدَة عَبْر الإنتاج والعمليات في ثلاثة مفاهيم آتية:
– مَتَانَة جودة المنتج (Quality robustness)؛ وتعني: العمل على إزالة الظروف المعاكسة في حالة إنتاج المنتجات بدلًا من إزالة المسببات؛ لأنها تكون أقل كلفة وأكثر فاعلية إذا أردنا الحصول على منتجات متينة.
– الجَوْدَة المستهدفة (Target – oriented quality): وهذه الفلسفة تعني الاستمرار في التحسين للحصول على المنتج ضمن الهدف المطلوب بالضبط.
– دَالَّة خسارة الجَوْدَة (Quality loss function)؛ وَيُقْصَد بها: تحديد جميع التكاليف المرتبطة بالجَوْدَة السيئة، وهذه تشتمل على: تكاليف عدم رضاء الزبون، والضمان (الكفالة)، والفحص الداخلي، وتكاليف الخدمة…وغيرها.
وَقَد اهتَمَّ تاجوشي بتوسيع نطاق تطبيق الجَوْدَة الإحصائية، خاصة في مرحلة تصميم المنتج، وله نظرية شهيرة تسمى “دالة الخسارة”، وتتلخَّص في أن الخسارة لا تأتي من إنتاج سلعة مُعِيبة فقط، ولكن من أي سلعة تكون مواصفاتها بعيدة عن الهدف، حتى لو كانت داخل التفاوت المسموح به، ويمكن تحديد قيمة الخسارة عند الحِيْدَة عن قيمة الهدف عبر “دالة الخسارة”، وتعني “كلَّما اتجهت قيمة التكلفة إلى الهدف، أدى ذلك إلى انخفاض التكلفة”، وهذا يدل على إقبال العملاء إليها، وأنَّها تلبي رغباتهم.
وَبِنَظْرَةٍ تَحْلِيلية حول ما كًتِب عن فلسفة الجَوْدَة الشاملة، نَجِد أنَّ عُلماء الجَوْدَة ركَّزوا بوجه عام على أهمية نشر ثقافة الجَوْدَة الشاملة في جميع المؤسسات، وأهمية مبادئها المتمثلة في: التركيز على التحسين المستمر، وإرضاء المستفيد، وضرورة تدريب الموظفين وتأهيلهم؛ ووجود قيادة واعية تؤمن بالجَوْدَة، ونشر مبدأ إتقان العمل من أول مرة، والعمل ضمن الفريق الواحد، واتخاذ القرارات بناءً على حقائق إحصائية.
إنَّ هُناكَ من يُنَادِي بتطبيق الجَوْدَة الشاملة في التعليم؛ لما لها من فوائد تجنيها المؤسسات التعليمية؛ لذلك قامتْ الكثيرُ من الجامعات والمدارس بتطبيق مبادئ الجَوْدَة، بُغية الوصول للأهداف المنشودة، وتحسين مستوى أداء خريجيها، ودعم التغيرات الحادثة في المجال التربوي، وهذا كله بحاجة لقيادات تربوية مهنية ومؤهلة تأهيلًا عاليًا، وهذا ما سنتناوله في العدد المقبل من المجلة؛ لنبيِّن مفهومَ إدارة الجَوْدَة الشاملة في التعليم، وأهميتها، وأهدافها، ومسوِّغات تطبيق مَبَادئها، والمعايير التي ترتَكِزُ عليها.
—————————————————-
:المصادر والمراجع:
المراجع العربية:
– حسن مختار حسين سليم، “الإشراف الفني في التعليم: من منظور الجَوْدَة الشاملة”، الطبعة الثانية، القاهرة: مكتبة بيروت، 2009م.
– رافدة الحريري، “القيادة وإدارة الجَوْدَة في التعليم العالي”، الطبعة الأولى، عمَّان: دار الثقافة، 1431هـ/2010م.
– رجب العويسي، “الجَوْدَة في الإدارة المدرسية: أبعاد ورؤى في تطوير الممارسات”، الطبعة الأولى، الإمارات العربية المتحدة: دار الكتاب الجامعي، 1431هـ/ 2011م.
– ريشارد.ل.ويليامز، “أساسيات إدارة الجَوْدَة الشاملة”، ترجمة مكتبة جرير، الطبعة الأولى، المملكة العربية السعودية: الجمعية الأمريكية للإدارة، 1999م.
– سلامة عبد العظيم حسين، “الجَوْدَة الشاملة والاعتماد الأكاديمي”، بدون طبعة، القاهرة: دار الجامعة الجديدة، 2008م.
– قاسم المحياوي، “إدارة الجَوْدَة في الخدمات: مفاهيم وعمليات وتطبيقات”، الطبعة الأولى، عمَّان: دار الشروق، 2006م.
– قاسم المحياوي، “إدارة الجَوْدَة الشاملة: متطلبات الآيزو 2000-9001″، الطبعة الأولى، الإصدار الثاني، عمَّان: دار الثقافة، 2009م.
– علي الألمعي، “الجَوْدَة الشاملة في التعليم العام في المملكة العربية السعودية”، الطبعة الأولى، بيروت: الدار العربية للعلوم، 1430هـ/2009م.
– مأمون سليمان الدرادكة، “إدارة الجَوْدَة الشاملة وخدمة العملاء”، الطبعة الأولى، عمَّان: دار الصفاء، 1426هـ/2006م.
– محمود مُحمَّد حافظ، “مُؤشرات جودة التعليم في ضوء المعايير التعليمية”، الطبعة الأولى، جمهورية مصر العربية: دار العلم والإيمان، 2012م.
– مُحمَّد حسن مُحمَّد حمادات، “الإدارة التربوية: وظائف وقضايا معاصرة”، الطبعة الأولى، عمَّان: دار الحامد، 2007م.
– مُحمَّد حسنين العجمي، “الاعتماد وضمان الجَوْدَة الشاملة لمدارس التعليم الثانوي العام”، الطبعة الأولى، الإسكندرية: دار الجامعة الجديدة، 2007م.
– مُحمَّد عبدالوهاب العزاوي، “إدارة الجَوْدَة الشاملة”، الطبعة الأولى، عمَّان: دار اليازودي، 2005م.
– مدحت مُحمَّد أبوالنصر، “إدارة الجَوْدَة الشاملة في مجال الخدمات”، الطبعة الأولى، القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2008.
المراجع الأجنبية
– Bodireddy Mahalakshmi& B. Reddy, Implementation of Total Quality Management
– Chales Sevick, Can Demings Concept of Total Quality Management be Applied to Education? Annual conference on Creating Quality Schools, Oklahoma City.
– W. Edwards Deming, Out Of The Crisis, First Edition.- The USA: MIT Press, 2000.
– Jay Heizer &Barry , Production & Operation Management, Fourth Edition.- USA: Prentice – Hall, 1996.
– Nigel Slack & others, Operations Management, Second Edition.- England: Pearson Education Limited, 1998.
17,662 total views, 5 views today
Hits: 5466