صراع الوجود
ياسمين البطاط
أيَا طِفلتي الصغيرة التي أضاعتْ طفولتها بين أشجار الزيتون، أيَا زهرة قرنفل في شوارع غزِّة الحزينة، هل اقتلعُوك من أرضك قبل أن تُزهِري؟ أيُّ شناعةٍ ارتكبَ أبواك لتكوني اليوم على حبل المشنقة؟ إلى متى ستظلِّين حُلمًا يراه قلبي كل ليلة، وما إنْ تُشرق الشمس حتى تتضح الرؤية، الرؤية المليئة بغبار القنابل وركام الأبنية المتساقطة.
يومًا ما سُئلت سؤالًا، وكان هذا السؤال سبب تسجيلي لحلقة اليوم باختصار:
”ياسمين، لماذا فلسطين بالذات التي أسرت قلبك منذ إدراكك للعالم وما حولك؟”.
يقول غسان كنفاني: “يسرقون رغيفك، ثم يعطونك منه كِسرة، ثم يأمرونك أن تشكُرهم على كرمهم.. يا لوقاحتهم”.
لماذا القضية الفلسطينية بالذات؟ لماذا نحنُ انتقائيون في قضايانا ولا نتعاطف مع الروهينجا أو السودان أو غيرها من القضايا الإنسانية المأساوية التي تحصُل في عالمنا بقدر ما نتعاطَف مع فلسطين؟ الكثيرُ منا بدأ يشعر أن إسرائيل لن تُهزم بعد سبعين عاما، وأنَّ المقاومة لا داعي لها بعد كل الدماء التي سفكت، فنعتبر أن الأرواح تذهب سُدى في سبيل مقاومة العدو الصهيوني، وبناءً على هذه الفكرة نعتقدُ أنَّ حل السلام بين إسرائيل وفلسطين هو الحل الأمثل، أن تبقى إسرائيل كما هي وتبدأ فلسطين بترميم الجروح التي عانت منها عبر كل تلك السنوات. ولأوضِّح لكم هذه الفكرة بطريقة أخرى، فإنَّ كثيرًا من الدول عندما تقبلت حقيقة أنها قائمة على أنقاض دول أخرى تمَّ استعمارها وإبادتها تصالحُوا مع هذه الحقيقة ورمموا أنفسهم. لماذا لا نفعل الشيء ذاته مع فلسطين؟ لماذا لا تزال القضية الفلسطينية تعتبر قضية محقة وقضية جوهرية في هذا العصر؟ ولماذا لا تقوم فلسطين ببناء نفسها ذاتيا، وتختار السلام بدلًا من سيل الدماء فتتخلى عن فكرة المقاومة؟ ولماذا لا نعتبر إسرائيل أمرًا واقعًا يجب التعايش معه بطريقة سلمية بدلا من الحرب؟ أسئلة كثيرة مثل هذه تدُور في رأس آلاف البشر، وإن كنتم نتنظرون جوابًا كاملًا مني يُسقِط علامات الاستفهام من عقولكم، فأنا أعتذر. ولكنَّني سأتحدَّث عن هذه القضية من خلفيتي الثقافية، ومن خلال قراءاتي ومناقشاتي عن هذا الموضوع.
إنَّ القضية الفلسطينيَّة باختصار هي قضية وجُود، واختزالُ القضية الفلسطينية في زاوية جغرافية مُحدَّدة هو تقزيم مفضُوح للقضية، وتسطيح مذموم في التفكير؛ لأنَّ ذلك يحصُر الصراع في نطاق ضيِّق جدًّا؛ فيُصبح الصراع صِراعا على الحُدود، والقضية في الأصل قضية وُجود.
عند الحديث عن القضية الفلسطينية، أو المشكلة الإسرائيلية، علينا أنْ نعترفَ بوجود مُجتمعيْن متباينيْن على أرض فلسطين العربية التاريخية: المجتمع الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي.
المجتمع الإسرائيلي لا يَملُك -كمجتمع- أي صفات حقيقية تميِّزه سوى امتلاكه لناصية القوة العسكرية التي توفِّر الإطار والوعاء لصهر مُكوناته من المجموعات البشرية المبعثرة هنا وهناك، والتي تنتمي لعوالم ولغات وثقافات مختلفة، والتي أصبحتْ ملمُومة في الزمان والمكان تحت مسمى المجتمع الإسرائيلي في كيان واحد، يجمعها دين واحد، ومصلحة واحدة في استعمار فلسطين، ولا شيء آخر؛ في حين أنَّ الشعب الفلسطيني الذي كان مُوحَّدا على أرضه، وفي وطنه، أصبحَ الآن -وبحكم الاحتلال- مُبعثرًا مُشتَّتا في عوالم ومجتمعات مختلفة استهلكتْ جُزءا من خصائصه الفلسطينية كما كانت قبل الشتات، وحوَّلته من شعب واحد ومجتمع كامل التعريف إلى شعب مكوَّن من مجموعات بشرية متمايزة ومختلفة، ولكن بقي يجمعُها بالرغم من كل ذلك انتماء فلسطيني عام وواضح، ورغبة أكيدة في العودة أو التحرير، وهي رغبة تلبي حقا طبيعيًّا وغريزة إنسانية يتشارك فيها كل أبناء فلسطين.
إنَّ فهمَ الفلسطينيين تحت الاحتلال للعقلية الإسرائيلية قد مَكَّنهم بالنتيجة، وفي ظل غياب نهج المقاومة عن فكر القيادة الفلسطينية وبرنامج عملها، من التعامل مع الاحتلال بنِدَية تخلو من الخوف أو الاستكانة. وهذه الندية هي ما يميِّز نضال الفلسطينيين تحت الاحتلال منذ الانتفاضة الأولى وحتى الآن. فأسلوب الكر والفر اختفى لصالح أسلوب الصمود والتحدي الذي يسعى لمقاومة مستمرة وشبه يومية للمخطط الإسرائيلي الصهيوني في استعمار الأرض دون البشر. وهذا لا يعني عدم وجود عناصر فلسطينية ذات نفوس ضعيفة تتعاون مع الاحتلال، ولكن الأمور يجب أنْ لا تقاس من منظورها السلبي فقط؛ فالفلسطينيون تحت الاحتلال الجائر والاستيطان المجنون لا يملكون من خيار سوى الرفض والإصرار على استمرار الحياة على أرض الوطن بأي وسيلة، ومهما كان الثمن، وهذا بحد ذاته شكل من أشكال المقاومة؛ كون الفَنَاء أو خلق أمة فاشلة هو بالنتيجة الهدف الحقيقي للاحتلال الذي يريد الأرض دون البشر.
لولا المقاومة بكل أشكالها لوصلت إسرائيل اليوم إلى أبواب بيوتنا.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أو كما تُسمَّى انتفاضة الحجارة، ثورة البراق، إضراب الأسرى المستمر في سجون الاحتلال، منظمة التحرير الفلسطينية، حماس، فتح…وغيرها من حركات المقاومة، انسحاب إسرائيل من قطاع غزة نتيجة عمليات المقاومة في 2005، أسر المقاومة لبعض الجنود الإسرائيليين، فوز حماس في الانتخابات التشريعة، انطلاق مسيرات العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، رواية الطنطورية لرضوى عاشور، رجال في الشمس لغسان كنفاني، قصائد محمود درويش، رأيت رام الله لمريد البرغوث، ألف ليلة في زنزانة العزل الانفرادي لمروان البرغوثي… والقائمة لا تنتهي، كلُّ هذه وأكثر من ذلك هي شكل من أشكال المقاومة. لم تكن المقاومة يومًا بالسلاح فقط؛ فقد يقاوم الأطفال بالحجارة إلى يومنا هذا، المؤتمرات والأمسيات الشعرية لإحياء القضية الفلسطينية كلها مقاومة، وبقاء القضية مشتعلة في داخلنا حيث نؤمن إيمانا مطلقا بأحقية الفلسطينيين في أراضيهم هي في حدِّ ذاتها مقاومة قزَّمت إسرائيل وكبَّلتها من التوسُّع. وإذا أردنا أن نُعطِي كلَّ ذي حق حقه بالعدالة والقانون، فلن يكون لإسرائيل أي حق حتى في قصفة زيتون من أرض فلسطين، ربما بعضكم سيسأل: ولكن كيف؟
فلسطين كانت خيارا من بين عدة دول، ولم تكن فلسطين هي الخيار الوحيد والأول لإسرائيل، وهذه حقيقة لا يُمكن لأحد أن يكفرها؛ فنشوء القومية اليهودية في فلسطين تكوَّنت من جذور وهمية كونتها إسرائيل. لو كانت فلسطين حقًّا لليهود وكانت حقًّا أرض المعاد، فلن تكون فلسطين خيارا من بين دول أخرى إن كنا نتكلَّم من الناحية العقلية. ثم تخيَّلوا معي لو كانت فلسطين بلا ثَورَات ولا مُقاومة، لن تُهيمن إسرائيل على فلسطين فقط بل ستضم دولًا أخرى لها؛ فمن أهداف إسرائيل إضعاف المنطقة حول فلسطين، لننشغل نحن بما يحدث من قتل وألم، ولتنشغل هي بتهجير الفلسطينيين بينما نحن نغمض أعيننا عنهم، ونعتقد أن القضايا الأخرى أكثر أهمية. لذلك؛ أكرر أنَّ قضية فلسطين هي قضية وجود، وأنَّ احتلال إسرائيل لفلسطين هو احتلال لمعظم الدول الأخرى.
حل السلام مع إسرائيل:
أولًا: لنعرف كيف توسَّعت إسرائيل في فلسطين؟ عن طريق أخذ الدعم من الخارج، وبالخارج أقصد على رأس القائمة أمريكا وبعض الدول الأخرى، ومن ثم تلتها مباشرة موجات الهجرة الوحشية التي شردت الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم لبناء مستوطنات لليهود؛ فالأرض التي اغتصبتها إسرائيل لم تكن صحراء قاحلة أبدا، ولكي تحافظ على الأراضي التي أخذتها وتأخذها حتى اليوم، قامت بإضعاف المناطق المجاورة، وعندما أراد الفلسطينيون التفاوض مع إسرائيل والوصول لحل سلمي، اتخذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 131 قرارا؛ يعالج بشكل مباشر الصراع العربي-الإسرائيلي، وكثير منها يتعلق بالفلسطينيين؛ ومنذ عام 2012، صدر عدد من القرارات التي تتناول بصورة مباشرة الدولة الفلسطينية الحديثة، ولكن إسرائيل لم تلتزم بأي قرار أو أي معاهدة لا تتوافق مع مصالحها عبر التاريخ.
والآن، نحنُ الذين نعيش خارج الأراضي الفلسطينية، نحن الذين لا نملك الحجارة لنحارب العدو، ولكننا نملك عقلا وقلبا أقوى بكثير من مائة دبابة وبندقية. إن المؤتمرات والمشاريع الاقتصادية والمظاهرات والتعبئة -صحفيًّا وثقافيًّا، أو ما يعرف بأدب المقاومة- وخط العمل السياسي والنضالي، كلها أشكال مختلفة للمقاومة.
اختر طريقتك المناسبة في المقاومة؛ لأنك إنسانٌ قبل كل شيء ويهمُّه أمر أمته؛ لأنك إنسانٌ تشعر بأخيك الإنسان؛ لأنك مُسلم، ولأن الدفاع عن القدس الشريف مسؤولية الجميع، لأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما أنَّه بيت المقدس، ومدينة السلام؛ فلا يمكن اختزالها في حراس البيت أبناء فلسطين؛ لأنهم أَهْلنَا وإخواننا وَدَمهم يجري في عروقنا، وإلَّا فإننا نكون بذلك شركاء رئيسيين في مَسْخْ القضية وبيعها للخصوم، أمَّا إذا كُنَّا جَادِّينْ وصادقين في الدفاع عن القدس، فيجب علينا الإمساك بملف القضية بكيفية صحيحة؛ حتى نستطيع أن نُلِم بالوقائع على نحو صحيح.
في إحدى المرات، سمعتُ شاعرًا يقول: إنَّ أروع النصوص الأدبية لا تُكتب، أتعلمون لماذا؟ لأن النصوص الأدبية إنما هي مُتولدة من طفرة في المشاعر، بعض الكتاب لا يريدون لتلك الطفرة أن تخلد في ذاكرتهم يريدون أن ينسون ما مروا به لذلك هم لا يكتبون. وهنا يذهب نصف الأدب، فما نقرأه اليوم من الأدب هو ليس إلا جزءا بسيطا كمثل الماء الذي يبقى على شعرة عندما تغرسها في البحر. الأدب الأعظم إنما هو في أنفس الشعراء وفي أنفس الكتاب، الأدب الذي لم يكتب والذي أراد له أهله أن يُمحى.
كان هذا المقال مُحَاولة لجمع شتات الغربة، أو مُحَاولة للعودة إلى الوطن، ونحن في المهجر؛ المهجر الذي نصنعُه لأنفسنا على الوطن الذي لم يكن يوما.
2,908 total views, 2 views today
Hits: 342