تأملات في ملكوت الله في البحار
د. حمد محمد الغيلاني
كاتب وباحث
الظواهر الطبيعية والتغيُّرات المناخية والبيئية، الكائنات البحرية بأنواعها؛ حياتها وهجراتها.. الطيور، الحيتان، السلاحف، جمال الطبيعة وتقلباتها المختلفة في المواسم، هذه خُلَاصة ثلاثين عاما من الترحال في عالم البحار والطبيعة والبيئة والمناخ الذي يكتنفُه -من خلال الأبحاث العلمية أو الترحال المباشر والحياة مع الطبيعة والكائنات- ورسم هذا الجمال والتناسق والإبداع بالصورة؛ من خلال تصوير تلك المناظر، أو الكائنات.
العوالق النباتية البحرية هي أصغر الكائنات البحرية في السلسلة الغذائية في عالم البحار، وهي أساس السلسلة الغذائية، لا تُرى إلا بالمجهر، هذه الكائنات تُغذِّي العالم في البحار واليابسة بـ50% من الأكسجين، وهي أساس تكوُّن النفط والغاز في العالم منذ أكثر من 150 مليون عام، ولا يُوجد لهما مصدر آخر سواه، الغاز من العوالق النباتية، والنفط من الطحالب، تكوَّنا بعد عمليات مُعقَّدة من التغيرات البيئية والمناخية استمرت عشرات الملايين من السنين، والطريف أنَّ ازدهار العوالق النباتية كان خلال هذه الفترة (أي منذ 150 مليون عام أو أكثر)، أكبر في المياه القريبة من شواطئ أوروبا، إلا أنه لم تتوافر له الظروف البيئية والمناخية المناسبة كما توافرت له في المياه القريبة من الخليج العربي وبحر العرب، هذه الكائنات الدقيقة جدًّا، مع أنها المصدر الأول للأكسجين للإنسان وكل الكائنات، والمصدر الأول والوحيد للطاقة؛ فهي المصدر الأول للغذاء في البحار؛ فأكبر كائن في العالم وهو الحوت الأزرق -الذي يصل طوله إلى 30 مترا، ووزنة إلى 200 طن- يتغذَّى على هذه الكائنات الدقيقة؛ فهو يرشح كمية كبيرة من المياه، تصل إلى عِدة أطنان، ويستخلص من العوالق النباتية الدقيقة غذاءه.
وقد تزدهرُ هذه الكائنات بشكل كبير، ثم تمُوت خلال ثلاثة أيام من دورة حياتها القصيرة، وعند مَوتها تتحلَّل بالبكتيريا، البكتيريا تستهلك كميات كبيرة من الأكسجين أثناء تحليلها لهذه الكائنات، استهلاك البكتيريا للأكسجين، يؤدي لنقص الأكسجين في البحار، وقد يؤدي لنفُوق الكائنات البحرية والأسماك.
يُوجد تسعون نوعا من الحيتان والدلافين في بحار العالم، يوجد عشرون منها في المياه العُمانية؛ أهمها: الحوت القاتل، وحوت العنبر، والحوت الأحدب، وتتواصل هذه الكائنات في البحار عن طريق الأصوات، ويُمكن تمييز صوت كل حوت عن الآخر، كما يمكن تمييز صوت الحوت الأحدب العربي الموجود في المياه العُمانية، وأكثر أنواع الحيتان عُرضةً للانقراض في العالم؛ حيث لم يتبقَّ منه سوى 100 فرد أو أقل، يُمكن تمييز صوت هذا الحوت عن الحيتان الحدباء في مواقع أخرى من العالم؛ مثل: حوت الأحدب المحيط الأطلسي، وحوت الأحدب المحيط الهادي، وعندما يجد أحد هذه الحيتان غذاء في مكان ما، فإنه يطلق أصواتا تصل لعشرات الكيلومترات، بها رسائل تعني توافر الغذاء عند مصدر الصوت، تتجمَّع بعدها أعداد من الحيتان في موقع الصوت، وتحاصر الغذاء المتوفر هناك، مثل أسماك السردين وغيرها؛ حيث تُحيط الحيتان بهذه الأسماك الصغيرة حتى تشل حركتها، وعندما تبدأ هذه الأسماك الصغيرة بالنزول لقاع المحيط، يتَّجه كل مرة حوت من الحيتان التي تُحاصر الغذاء إلى أسفل يتلقط غذاءه، ثم يعاود الحركة الدائرية حول الغذاء، ليخلفه حوت آخر ويلتقط غذاءه، وهكذا حتى تتغذى جميع الحيتان بالتساوي.
يُوجد مئتا نوع من السلاحف، البرية والبحرية والبرمائية…وغيرها، سبعة أنواع فقط منها بحرية، خمسة منها تعشِّش في شواطئ سلطنة عُمان، هذه السلاحف عادة ما تعشش في موقع، لكنها تهاجر وتتغذى في موقع آخر بعيد عن موقع التعشيش، وتصل هجرة هذه الأنواع إلى 20 ألف كيلومتر، وفي المتوسط 10 آلاف كيلومتر، وعن طريق أجهزة الأقمار الصناعية ممكن تتبع هجرة هذه الكائنات وغيرها من الكائنات الأخرى كالطيور والحيتان والحيوانات البرية؛ فبعد أن تفقس السلاحف البحرية من البيض تتجه مباشرة إلى الموقع الذي أتت منه أمها، وكانت تتغذى فيه؛ فمثلا السلاحف الخضراء الصغيرة في رأس الحد بجنوب شرقية سلطنة عُمان، تهاجر بعد أن تفقس من البيض في شواطئ رأس الحد، إلى موطن غذاء أمها في البحر الأحمر، وتستقر هناك حتى البلوغ بعد عشرين عاما، ثم تعود لتبيض بعد البلوغ في رأس الحد، وقد وجدنا سلاحف خضراء باضت في رأس الحد، ثم عادت إلى البحر الأحمر، وبعد سنتين أو ثلاث من عودتها الأولى للبيض، عادت مرة أخرى إلى نفس الموقع، في نفس المكان واليوم والساعة، بعد عامين أو ثلاثة؛ مما يُؤكِّد قدرتها الفائقة على تحديد موقعها والعودة إليه مرة أخرى، تكرر ذلك لأكثر من سلحفاة؛ حيث عادت إلى نفس المكان والزمان، بعد مرور عدة أعوام، كما لاحظنا هجرة السلاحف البحرية أثناء تتبعها بالأقمار الصناعية إلى مواقع بعيدة جدا، مثلا: سلحفاة ريماني من مصيرة وُجِدت بعد عدة شهور في جنوب أستراليا، قاطعة مسافة 12 ألف كيلومتر.
تُعتبر عُمان أهم موقع لهجرة الطيور البحرية في المنطقة؛ حيث تُعتبر منطقة بر الحكمان أهم مواقع هجرة الطيور؛ حيث يتوافر الغذاء بكميات كبيرة، خاصة في موسم الشتاء، ويوجَد 530 نوعا من الطيور في عُمان، مما يقارب 11 ألف نوع من الطيور على مستوى العالم؛ حيث تهاجر طيور أوروبا وروسيا وشمال آسيا إلى عُمان، ثم يُكمل بعضها هجرته إلى إفريقيا، ويستقر بعضها في عُمان طوال فترة الشتاء، ويعتمدُ موسم وصول هذه الطيور إلى عُمان في الشتاء -أو هجرتها إلى الشمال- على مدى برودة أو دفء المنطقة التي تهاجر إليها؛ فقد تهاجر هذه الطيور إلى إيران خلال شهر أبريل ومايو؛ حيث تعتدل الحرارة هناك هذه الفترة، بينما لا تهاجر الطيور العُمانية إلى سيبيريا إلا في شهر يونيو ويوليو؛ حيث تعتدل الحرارة هناك في تلك الفترة ولفترة وجيزة أيضا، ثم تعود مرة أخرى إلى عُمان؛ فحركة هذه الطيور مرتبطة بشكل مباشر بمدى برودة أو دفء تلك المناطق المهاجَر إليها، كما تعتمدُ كذلك على توافر الغذاء المناسب في كل موسم. فعندما نتابع تواجد الطيور البحرية في رأس الحد مثلا، فإنها تتواجد أحيانا في الفترة التي تفقِس فيها السلاحف في ذلك المكان، حتى تتغذَّى على صِغَار السلاحف، ثم تنتقل إلى منطقة أخرى عندما ينتهي موسم الفقس هناك.
جَمَال البِحَار وتنوُّعها وثراؤها بالكائنات المختلفة، والظواهر الطبيعية والبيئية والتيارات البحرية، كبير جدا، ويحتاج منا إلى جهد ووقت في الحديث عنه وسبر أغواره العميقة؛ حيث توجد حول عُمان ثلاثة بحار؛ أولها: الخليج العربي، الذي يُوجد به تيار بحري واحد دائري طوال العام، يُنظِّف بحار الخليج العربي من الملوثات، وتكون حركته دائرية، يمر بشواطئ إيران بالاتجاه غربا إلى شواطئ العراق والكويت، ثم يعود مرورا بشواطئ السعودية والبحرين وقطر والإمارات ثم مسندم، عند مسندم يلتقي بتيار بحر عُمان، الذي يتجه طوال العام من جزر سلامة، مرورا بشواطئ مسندم، ثم الباطنة، ثم مسقط، ثم صور ورأس الحد، حتى ينتهي إلى داخل المحيط الهندي. أما تيار بحر العرب، فهو متغير: في موسم الخريف يأتي من غرب أستراليا مرورا بشواطئ شرق إفريقيا، ثم يتجه شمالا إلى الصومال واليمن وعُمان، وينتهي إلى داخل المحيط عند الحد الفاصل بين بحري العرب وعُمان، وهذا التيار -الذي يبدأ في مايو وينتهي في أغسطس- يجلب معه الكثير من الخيرات؛ من خلال جلبه للمغذيات من أعماق المحيط التي تتغذى عليها الكائنات الدقيقة، والتي هي غذاء للكائنات الصغيرة، والتي بدَورها غذاء للأسماك والكائنات البحرية الأخرى. وفي موسم الشتاء، يغير التيار اتجاهه ليتَّجه من الشمال إلى الجنوب، من الهند باتجاه شواطئ بحر العرب باتجاه شرق إفريقيا، ثم يتَّجه شرقا إلى أستراليا؛ أي أنَّه باتجاه مُعاكس لاتجاه تيار الخريف، وهذه التيارات البحرية هي ما تعتمد عليه الرحلات البحرية الشراعية القديمة في السفر والتجارة والترحال. كما يُوجد في البحر دوامات بحرية وهي أصغر من التيارات، هذه الدومات تدوُر مع أو عكس عقارب الساعة، وتتجه من الأعلى للأسفل لنقل الأكسجين إلى الكائنات في القاع من السطح، أو من الأسفل للأعلى لنقل المغذيات؛ مثل: النيترات والفوسفات والسليكات…وغيرها، من القاع إلى الكائنات الدقيقة في السطح. أما الأعاصير البحرية، فهي تحدُث على مستوى المحيط، وتحفر في تربة الشواطئ إلى أعماق كبيرة تصل إلى متر، كي تنظف الشواطئ، وتنقل الملوثات إلى أعماق المحيط.
وتتميَّز البيئات البحرية بتنوُّعها وثرائها وجمالها، خاصَّة في مناظر الغروب والشروق والكائنات المتنوعة فيها، وتمازج حركة الإنسان مع هذا التنوع الهائل والثراء الأخاذ، والجمال الباذخ؛ حيث تتنوَّع الألوان، والأشكال باختلاف الموسم والمكان.
2,787 total views, 2 views today
Hits: 148