تحديات التعليم في ظل جائحة كورونا COVID-19
د. بدرية بنت محمد النبهاني
باحثة في التاريخ
التعليم الركيزة الرئيسة لتقدم الأمم وتطورها، ويمثل الشغل الشاغل للدول كونه يتعامل مع الفئة المعول عليها البناء والتطوير. ووصل الحال ببعض الدول إلى مراجعة سياساتها التعليمية سنويا، لتواكب المستجدات العالمية والتطورات. فعبر التعليم بمختلف مستوياته تغرس القيم والتراث، وعبر التعليم تتطور القطاعات الأخرى في الدول، ومن خلاله كذلك تحافظ الأمم على كينونتها وماهيتها في عالم متعدد متغير. ومع مرور العالم بأزمات وصراعات كان الجميع يسعى لتحسين الحياة من خلال تحسين التعليم، بالمقابل كان أكثر القطاعات تأثرا. وما يمر به العالم اليوم في مواجهة فيروس كورونا، ما هو إلا مرحلة من مراحل هذه الأزمات التي تعصف بالبشرية بين الفينة والأخرى. وإن كان العالم اتجه نحو التعليم المنزلي عبر الوالدين أو عبر حضور الطلبة لحلقات دراسية داخل المنازل أو في أماكن العبادة، فإن العالم في ضوء ثورة المعرفة أصبح بإمكان هذه المعرفة القدوم إليه في أي مكان.
إن مفهوم التعلم عن بعد ليس بالجديد، فأغلب الدول المتقدمة اتجهت إليه مع تطور وسائل الاتصال، ووجود القاعدة المعلوماتية الجيدة لديها، مما أتاح فرصا كبيرا للباحثين عن المعرفة والراغبين باستكمال تحصيلهم العلمي والتدريبي للالتحاق بهذه البرامج، وانتقل الامر إلى العالم أجمع عبر هذه المنصات، فتطورت وسائل اكتساب المعرفة من مدونات إلى فصول افتراضية إلى جامعات افتراضية، وكل من لم يواكب هذا التطور تأثر كثيرا في أزمة كورونا، وأول هذه القطاعات تأثرا هو قطاع التعليم.
وقد أثارت اليونسكو العديد من الهواجس حول عدم استعداد أنظمة تعليمية عديدة لهذا التحول الرقمي، فهذه الدول عدا أن البنية التحتية الرقمية لديها ضعيفة أو تكاد تكون معدومة، فإن العديد من الأسر لا تملك الإمكانيات للتفاعل الرقمي، والكادر التدريسي غير مؤهل كفاية لهذا النوع من التعليم كذلك. وأكدت اليونسكو أن أعداد الأطفال والشباب والكبار الذين انقطعوا عن الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة بسبب انتشار فيروس كورونا الجديد آخذة في الازدياد. وقد أعلنت الحكومات في جميع أنحاء العالم عن إغلاق المؤسسات التعليمية، سعياً منها إلى الحدّ من هذه الجائحة العالمية. ووفقاً لما رصدته اليونسكو، فقد قام أكثر من 138 دولة اتخذت قراراً بإغلاق تام أو جزئي للمدارس والمجموعات، ما يعني أن 1.37 مليار تلميذ وطالب عبر العالم تأثروا سلباً، أي أنه بين كل أربعة أطفال، ثلاثة تأثروا بهذه الإجراءات. كما توجد دول أعلنت مسبقاً إلغاء بعض الاختبارات النهائية لاقتناعها أن التعليم عن بعد من الصعب أن يوّفر بديلا لها كما فعلت فرنسا.
كل هذه الهواجس أدت إلى تراكمية القلق على مستويات التعليم في الدولة النامية خاصة، فإحصائيات البنك الدولي تشير إلى فقر التعلم وأن نسبة الطلاب الذين لا يستطيعون القراءة او الفهم دون سن العاشرة مرتفعة في العالم، تصل إلى أكثر من 50% في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، فكيف سيصبح الوضع في ظل جائحة كورونا العالمية والتي أجبرت الحكومات على اغلاق المدارس النظامية والجامعات والكليات العليا ؟!
في سلطنة عمان الوضع لا يختلف كثيرا عن المشهد السابق الذي ذكرناه، فإن تحدثنا عن التعليم العام، فلابد أن نتحدث عن مكونات المنظومة التعليمية كاملة. فعلى المستوى العام لا توجد سياسات تعليمية ثابته لما يتعلق بالتعلم عن بعد، وبالتالي لا توجد قاعدة تكنولوجية واحدة موجهه لكافة المحافظات وبالتالي تخدم كافة فئات الطلبة وعلى كافة المستويات في السهل والجبل والساحل، ناهيك عن ضعف البنية التحتية الرقمية لدينا، فهناك الكثير من المناطق لا تتوفر فيها الاتصالات الجيدة، وإن توفرت فلا توجد ضمانات أن جميع الطلبة تتوفر لديهم وسائل الاتصال كأجهزة الحواسيب أو الأجهزة اللوحية، ناهيك عن شبكة اتصالات عالية الجودة غير مكلفة.
أما على مستوى الهيئة التدريسية، فإن تأهيلهم الأكاديمي لم يشمل مقررات تعلم افتراضية، أو تكنولوجيا معلوماتية فاعلة، وعليه فما نراه على الساحة التربوية لا يتعدى كونه مبادرات فردية لبعض المعلمين من خلال اشراك طلابهم في منصات تعلم افتراضية وصفوف افتراضية، وهي محدودة زمانيا ومكانيا جدا. وهنا يجب أن نفرق بين فكرة التعلم عن بعد واستخدام تطبيقات الهواتف في العملية التعلمية، فهما أمران مختلفان جدا، ولأنه لا توجد سياسة عامة للموضوع فلم نجد إلا إنجازات فردية لهذه الهيئة للتواصل الافتراضي مع طلابهم على كافة المستويات، فلا توجد الزامية في الموضوع، ولم يتم التعامل مع تعطيل الدراسة كإجراء طارئ يلزم استمرارية التعليم، وتفعيل أدوات اختبارية ومتابعة للطالب والمعلم من قبل الإدارات التربوية العليا.
أما بالنسبة للطالب، فهو يتأثر بكافة العوامل السابقة، مما أدى لتوقف أكثر الطلبة عن تلقي دروسهم بانتظام، إلا بعض المؤسسات التعليمية الخاصة، التي ألزمت كادرها التدريسي باستمرار عملية التدريس عبر برامج تفاعلية، معتبرة البرامج المتاحة خطة طوارئ، وطبعا أعداد الطلبة في هذه المؤسسات لا تقارن بمؤسسات التعليم العام، والوضع الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء الطلبة قد يكون أفضل عن غالبية الطلبة في التعليم العام ولكن الاستفادة من خطة الطوارئ لديهم واشراك المعلم بإلزامية استمراره في إعطاء دروسه عن بعد هو ما يجب أخذه بالاعتبار هنا، وإلا سيشكل الأمر فجوة معرفية كبيرة، قد لا نشعر بها الآن، وإن استمر الوضع قد تتفاقم بصورة كبيرة.
ما يهم الآن هو الاستفادة من هذه التجربة على كافة الأصعدة في المنظومة التعليمية، لتقليل آثارها، انطلاقا من الإيمان بأن الفئة المستهدفة هي التي ستبني هذه الأوطان وبها يتحدد مستقبل مجتمعاتها. فمن المهم الآن التصدي للجائحة والاستفادة من هذه التجربة لتصحيح مسارات التعليم كافة، يأتي على رأسها أهمية وضع خطط بديلة جاهزة للانتقال من التعليم المدرسي للتعليم عن بعد لأي سبب كان، ويمكن في هذا الإطار الاستفادة من المباني المدرسية في المناطق الأقل تأثرا بالجائحة وفق اشتراطات السلامة، وفتحها للطلبة من ذوي الدخل المحدود ممن لا يمتلكون أجهزة حاسوب أو شبكة اتصالات في أماكن سكناهم لعدد معين من الساعات يوميا لاستكمال تحصيلهم الدراسي، في الجانب المقابل ، تفعيل الامتحانات الرقمية وتغيير منظومة التقويم المستمر، فمثلا امتحانات نهاية الفصل الدراسي للصفوف من (5-9) لا تتعدى نسبة 40% وهذه نسبة بسيطة تتدمج مع التقويم المستمر ويقيمها المعلم وفق استراتيجية مشتركة من المديريات التعليمية وتحت مظلة وزارة التربية و التعليم، بالنسبة للصفوف الأخرى من (10-11) يتم التعامل معهم بامتحانات موحدة في أوقات ثابته ويبقى خيار الاستفادة من المدارس المجاورة للقيام بها لمن لا يملك القدرات الفنية والتقنية، وطلاب 12 يحدد تاريخ معين لإعادتهم لمقاعد الدراسة الافتراضية لمدة شهر او شهر ونصف ويتم امتحانهم الكترونيا كذلك بمراقبة من المعلمين من خلال تفعيل مدارس الحلقة الأولى والثانية أو تزويدهم بأجهزة حاسوب محمولة ويتم امتحانهم الكترونيا، بإشراف معلمين وفق الاشتراطات الصحية. ولا ننسى في هذه الظروف المرحلة التأسيسية من (1-4) وخطط ادماجهم في التعليم، فالترفيع المباشر وإن كان حلا مؤقتا ستكون له انعكاسات كثيرة خاصة لطلاب الصف الأول الابتدائي.
في الأخير نؤكد أن المسألة ليست محلية أو إقليمية بل إن الهاجس عالمي، ففي تقرير لقناةDW الألمانية أكدت أن بعض الدول الأوروبية متخلفة في مجال التعليم عن بعد، ومنها ألمانيا، حسب تأكيد خبيرة التعليم الرقمي بمعهد م م بي mmb في مدينة إيسن، يوليا هنزه، وحسب وجهة نظرها فإن ألمانيا من أسوأ الدول الأوروبية في مجال التعليم الرقمي، وإن شبكة الإنترنت في البلد ضعيفة أو بطيئة في العديد من المناطق، كما أن أغلب المعلمين غير مدربين على تقنيات التعليم الرقمي. وإن كنا نتفق في العموم مع بعض الآراء التي ترى أن التعليم الرقمي يؤدي إلى تخريج طلبة أقل كفاءة ويخلق الإحباط في التواصل بين الأشخاص، إلا أنه يعتبر خيارات بديلا في ظل أي ظروف استثنائية، وليس القصد منه جعله تعليما إلزاميا.
إن المهم الآن هو التغلب على أزمة التعلُّم والتعليم التي نشهدها حالياً، واستكمال الطلبة لتعليمهم خاصة طلاب الدبلوم العام، للقضاء على الفجوة في التعليم التي حتما ستظهر إن لم توجد حلول بديلة ومباشرة. إن الحفاظ على مستويات التعلم في ظل أزمة تعلم قائمة بذاتها يستدعي الخروج من الصندوق والتفكير بالتعاون مع المبادرات الفردية للمعلمين وتبنيها، ذاك أنها مرت بفترات اختبار طوال أعوام تعليمية، والبناء عليها، وجذب اهتمام المعلمون وأولياء الأمور إلى جدية الأمر، ورحم الله تعالى باني نهضة عمان الحديثة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، حيث يقول مؤكدا على أهمية التعليم: “سنُعلّم أبناءنا ولو تحت ظل شجرة”.
4,558 total views, 2 views today
Hits: 435