تطور التفكير الديني عند المسلمين
مشتاق بن موسى اللواتي
1
إنَّ التحوُّلات السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة التي شهدها تاريخ العرب والمسلمين، والحراكَ الفكريَّ العام -والديني بشكل خاص- الذي مرَّ به، أفضى إلى ظُهُور عُلوم، وتشكل مناهج بحثية مُتعدِّدة في عددٍ من حُقول المعرفة الدينية؛ مثل: علوم القرآن، والحديث، والعقيدة، والفقه، والتاريخ، والأدب. وأدَّى إلى تنويع وتوسيع فكر المسلمين، وإلى طرو قضايا فكرية مُستجدَّة في مُختلف هذه الحقول.
إنَّ الناظرَ فِي أدبيَّات البحثِ العقديِّ، يسترعي نظرَه أنَّ مُفردة “العقيدة” لم ترد في القرآن الكريم، ولم تكن في الصَّدر الأول مُصطلحاً مُتعَارفا يشير إلى دلالة معينة ومعنى مُحدَّد. وأن دلالة مفردة “الفقه” و”التفقه” في الدين كانتْ أوْسَع من الدلالة الاصطلاحية الضيِّقة التي استقرَّ عليها البحث الفقهي في العصور اللاحقة.
والدَّارسُ لبحوثِ أُصُول الإيمان وأركانه، يلاحظ -بوضوح- أنَّ التفكيرَ الإيمانيَّ لأغلب المسلمين الأوائل لم تستحوذ عليه كثيرٌ من الأمور الفنية والمضمونية، التي تبلورتْ بعد القرن الأول. فلم تَشْغل عقولهم التدقيقات الكلامية والفلسفية في مفهوم توحيد الخالق؛ من قبيل: الوحدة العددية، أو الأحدية الحقة. أو تقسيم مفهوم التوحيد إلى: توحيد الألوهية، والربوبية، وتوحيد الصفات والأسماء، أو توحيد العقيدة والعبادة والعمل، أو توحيد الصفات والأفعال، أو توحيد الذات والصفات والأفعال، أو التوحيد النظري والعملي. ولم يُؤثَر عنهم أنهم صنَّفوا صِفَات الله تعالى إلى ثبوتية وسلبية (منفية)، ثم إلى صفات الذات وصفات الفعل، أو صفات الذات والفعل معا (بهذا الاعتبار أو ذاك)، أو إلى صفات خبرية وصفات عقلية، ولا إلى صفات الجمال والكمال والجلال، أو أنهم استهلكوا أوقاتهم في إثارة الخلاف والشقاق حول وحدة أو تغاير الصفات والذات. ولم يتوغَّلوا في حقيقة الكلام الإلهي، أو في حدوث القرآن وقدمه، فضلا عن ترتيب الآثار الإيمانية أو الكفرية (على هذا الفهم أو ذاك). وما خَطَر على بال جُلِّهم التأمُّل في مسألة الإرادة الإلهية، أو تصنيفها إلى: تشريعية، وتكوينية، وتحديد طبيعة ومجال كلٍّ منهما، فضلا عن التعمُّق في مُفردة “القدرة الإلهية” وتعلقها بالمقدور والممكن دون الممتنع والمحال. فلم يعرف عنهم أنهم قسَّموا الموجودات إلى واجب وممكن ومحال، وما إذا كان بالذات أو بالغير. بل لم يعهد عنهم الغوص في بعض المفردات القرآنية: كالعرش، والكرسي، وأم الكتاب، والإمام المبين، والاستواء، والمجيء. ولا إثارة الجدال حول الصِّفات الخبرية: كالوجه، واليدين، والعينين، والساق، وما إذا كانت حقيقية أم مجازية. وتردَّدت على أسماعهم مادة الوحي وتصريفاتها ومصاديقها المتعدِّدة في القرآن، لكنهم تعاملوا معها حسب سياقاتها اللغوية. ولم يَرِد عنهم أنهم طرحوا مفهوم عِصْمَة الأنبياء -عليهم السلام- قبل البعثة وبعدها، أو تدارسوا قضية عِصْمَة خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وآله وسلم- أو تباحثوا في مفهوم العِصْمَة وطبيعتها ومجالاتها: كالعصمة في تلقي الوحي، والعصمة في تبليغه، والعصمة في الاعتقاد من الكفر والشرك، أو العصمة في العمل من كبائر الذنوب أو صغائرها.
إنَّ الدَّارِس لبعض الآيات القرآنية، يتبيَّن له أنَّ بعضهم كان يتعامل مع النبي (ص) بطريقة تفتقد لأبسط قواعد الاحترام واللياقة الأدبية. وكان النبي (ص) يُداريهم ويتدرَّج معهم؛ لأنهم حديثو عهد بالدين الجديد وبمفاهيمه وقيمه. وقد تصدَّى القرآن الكريم لوضع بعض القواعد في سياق التعامل مع النبي (ص)، وحذر من مغبَّة مُخالفتها من قبيل قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون” (الحجرات:2)، وقوله تعالى: “إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (الحجرات:4)، وقوله جل شأنه: “لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (النور:63)، وقوله: “يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق، وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما. (الأحزاب”53). ومصادر التفسير تروي في أسباب نزول بعض الآيات القرآنية المذكورة أموراً غير مُستساغة، صدرت عن بعضهم؛ ففي تفسير الطبري ربما بلغ النبي (ص) قول أحدهم: لو أن النبي (ص) توفى تزوجت فلانة من بعده، فكان ذلك يؤذي النبي (ص)، فنزل القرآن: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله. كما أن بعض الوقائع التاريخية تدلِّل على أن بعضهم كان يجادل النبي (ص) في بعض الأحايين. فقد طعنوا في تأميره لزيد بن حارثة، وكذلك في تأميره لابنه أسامة في بعض السرايا. وفي الحديبية، قيل له: لِمَ نعطِ الدنية في ديننا؟ فرد النبي (ص): إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري. وانزعج الأنصار من توزيع النبي (ص) لغنائم حنين على قريش، فغضبوا ووجدوا في أنفسهم، وقالوا: يغفر الله لرسول الله، يُعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، وإذا كانت شديدة فنحن ندعى ويُعطى الغنيمة غيرُنا. ولما طلب الدواة والكتف قبيل وفاته ليكتب كتابا لا يضلوا بعده أبدا، اختلفوا وحصل اللغط بينهم، وقال بعضهم: ما شأنه، أهجر؟ أو إن النبي غلبه الوجع! حتى أمرهم أن يخرجوا من مجلسه، وقال لهم: فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه. وهكذا يتضح لنا أنَّ بعض المسلمين الأوائل ما كانوا يعتقدون بـ”وحيانية” بعض أوامره ونواهيه، وإرشاداته وتعليماته. وكانوا يعتقدون أن من حقهم أن يحاجوه في بعضها حسب أنظارهم.
وَإِذَا انتقلنا إلى قضية المعجزات التي تحتل موقعا في بحوث التفسير والعقيدة والسيرة؛ فنجد أن مفردة المعجزة ليست قرآنية. وعلى الرغم من أن القرآن الكريم تناول الآيات (المعجزة) للأنبياء، وتطرق إلى بعض الكرامات الخارقة لغير الأنبياء كالسيدة مريم وفتية أهل الكهف. ولكن لم ينقل عن المسلمين الأوائل استخدام مفهوم المعجز، أو أنه الخارق للعادة دون مبادئ العقل. ولم يدفعهم أي دافع -إيماني، أو فكري- للبحث في شروط المعجز ومقتضياته، وتحديد الفارق بينه وبين الكرامة والسحر. لقد طالب القرآن الكريم فصحاء العرب وبلغاءهم -في تحدٍّ صريح- بأن يعارضوه، فيأتوا بعشر سور أو بسورة واحدة مثل سوره، كما في قوله تعالى: “أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين” (هود:13)، وفي قوله سبحانه: “وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين” (البقرة:23). ومع ذلك، لم يفض ذلك -في حينه- إلى بروز قضية الإعجاز القرآني وطبيعته، وما إذا كانت ذاتية أم بالصرفة، ولا طُرِح موضوع الإعجاز القرآني وأصنافه، إن كان في البيان والنظم والبلاغة، أو المضمون الفكري والتشريعي والغيبي.
وَهَكَذا بالنسبة لكثيرٍ من تفاصيل مبحث العدل والجبر والاختيار، والهداية والضلال، والخير والشر، والحسن والقبح. وكذلك بالنسبة للأمور المتعلقة بما بعد الموت؛ من قبيل: المرحلة البرزخية وطبيعتها، وحقيقة عذاب البرزخ، والمعاد الجسماني والروحاني، والمسائل المرتبطة بالبعث والنشور، وحقيقة الخلود في النعيم أو الجحيم، وطبيعة العذاب الأخروي، وما إذا كانت تتعرض له الروح أو البدن أو كلاهما.
إنَّ جُل هذه القضايا الفكرية أخذت طريقها إلى مجالس الجدال والمناظرة بعد القرن الأول، وعلى أثرها انبثقتْ مسائل فرعية، ونحتت اصطلاحاتها، وتنامت أدبياتها، وتضخَّمت بحوثها. ولا يُعدُّ المرء مجانِبا للصواب إنْ زعم أنَّ كثيرا من المسلمين الأوائل لو قُدِّر لهم أن يبعثوا بعد القرن الأول؛ لتعجبوا من بعض تلكم العناوين والمفاهيم والأفكار.
وَهَذَا الوَضْع ينطبقُ أيضاً على تطوُّر البحث في أصول التشريع: من قياس، ورأي، ومصالح مرسلة، واستصلاح، واستحسان، وسد الذرائع وفتحها، وتقسيم المصالح إلى مصالح ضرورية وحاجية وتكميلية. فإنَّ جُملة من تلك الأصول تبلورت وتقعَّدت قواعدها بعد الصدر الأول.
وَللاطِّلاع عَلَى حَجم التوسع الذي حدث في بعض حقول الفكر الديني لدى المسلمين، بوسع الباحث أن يُقَارِن بَيْن حجم التفسير المأثور للقرآن الكريم في صحيح البخاري (ت 256) بتفسير الطبري (ت 310) بعد طرح الأسانيد. ويقارن بين المبادئ الاعتقادية التي كانت موضع اهتمام المسلمين في القرن الأول بالمدونات العقائدية التي ظهرت في القرون التالية، ليُلَاحِظ عن كثب العناوين الجديدة التي دخلت في البحث العقدي مع مرور الزمن. وسوف يتبيَّن له كيف أنَّ معظم المسلمين السالفين كانوا يقفون عند العموميات، ويكتفون بالأفكار البسيطة؛ فلا يتعمَّقون فيها، ولا يتوغَّلون في التفاصيل الجزئية.
2
إنَّ التطوُّر من سُنن الحياة، وكلما تقدم الزمن حمل معه تساؤلاته ونظراته المختلفة وأساليبه في التفكير، ومن ثمَّ تظهر أنماط جديدة من التفاعل مع قضايا الفكر والمجتمع لم يعهدها السابقون. ومن شأن الانفتاح على الأمم والأديان والثقافات والفلسفات الأخرى، أن يثير قضايا فكرية جديدة، ويطرح إشكاليات لم تكن مطروقة من قبل الأجيال السابقة. والتطوُّر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي بطبعه يُنتج مشكلات جديدة تتطلب معالجات فكرية وفقهية مبتكرة.
وَحَيْث إنَّ طبائع البشر مختلفة، واهتماماتهم متباينة، وأفهامهم ومداركهم متفاوتة، وتجاربهم متغايرة؛ فمن الطبيعي أنْ يتعاطى كلُّ جيل مع قضايا الفكر والاجتماع بطريقته؛ فالأصول التي كان يذعن بها الجيل السابق، والمبادئ التي كان يتقبلها بكل حماس ويتلقاها بالتسليم الكامل، يتعاطاها الجيل التالي بأسلوب مغاير؛ فقد لا يسلم بكل ما وصل إليه بشكل مطلق. بل يتوقف عند كثير من المفردات، ويتأمل فيها، ويطرح تساؤلات على كل مفصل من مفاصلها، أو يطالب بالدليل على كل مفردة منها؛ فلا يؤمن إلا بما يقنع به وتسكن إليه نفسه. وهذا ما يدفع أهل الفكر إلى إعمال الفكر، وتعميق النظر، وتقديم الأجوبة والردود على الإشكالات المطروحة.. وبهذا، تتوالد الأفكار، وتنضج الآراء، وتتنوع المناهج.
وَلَا يحُوْل وجود المرجعيات التأسيسية -كالكتاب والسنة- دون طرو الإشكالات والتساؤلات كما يشهد الواقع التاريخي؛ فإن مقابلة التحديات الفكرية المستجدة، ومواجهة الحوادث الاجتماعية الواقعة، بمنهجيات مزاوجة المعقول بالمنقول، أنتج مركبات فكرية وفقهية وعقدية لم ترد على خواطر الأجيال السالفة. ومن الشواهد التاريخية على ذلك: أن بعض الأوائل من المسلمين آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وآلة وسلم- بناء على ما عرفوا من سيرته الحميدة ولاحظوا من شمائله، وبما عُرِف عنه في بيئته بأنه الصادق الأمين. فلم يجرب عليه محيطه المجتمعي غير صدق الحديث وأداء الأمانة وحسن المعاملة وطيب المعاشرة وكمال الخلق. ولما استمعوا لدعوته وأصغوا إلى آيات الكتاب الحكيم، ورأوا أسلوبه العذب الفريد الذي يخاطب العقل والقلب، لانت قلوبهم لدعوته، وانجذبت نفوسهم لشخصيته.
أمَّا الذين جَاؤوا بَعْدهم، ولم يتشرَّفوا برؤيته، ولم يحظوا بمعاشرته ولا الاستماع إلى حديثه، فكان من الطبيعي أن يبحثوا عن شخصيته وحقيقة دعوته، ويطلبوا المزيد من الحجج، ويسألوا عن البراهين الدالة على صدقه في تلقي الوحي، ودقته في تبليغ الرسالة، ويتحققوا من تجسيده لقيمها وتشريعاتها في سلوكه الخاص ومعاملاته العامة.
وَمَع استمرار البحث والتنقيب في هذه المسائل، وتواصل الجدال والنقاش فيها، لاحت مسائل، وظهرت فروع جديدة مرتبطة ببحث النبوة؛ من قبيل: حقيقة الوحي وطبيعته، ومواصفات النبي (ص) ومعارفه وإمكانياته الفكرية، وخصائصه العقلية، وطبيعة علمه، وطبيعة أوامره ونواهيه. وتفتَّقت الأذهان عن تساؤلات جديدة حول أوامره وتعليماته، وهل هي وحيانية أم اجتهادية؟ وهل يجوز عليه الاجتهاد والخطأ في الاجتهاد؟ وإن قيل بجوازه فما حدوده؟ وكيف نضمن استمرار ثقة الناس به وبرسالته مع تكرار الخطأ؟ وما الذي يضمن عدم تسرب الأخطاء إلى الدين مادام قول النبي (ص) وفعله وتقريره حُجَّة في الدين؟
وَمِن الطَّبيعي أنْ يفضي البحث والتأمُّل في مثل هذه القضايا إلى تشكل أفكار ورؤى غير مسبوقة في علم الكلام وأصول الفقه وعلوم الحديث، ويؤدي إلى ظهور عناوين واصطلاحات غير معهودة؛ من قبيل: مفهوم الوحي وأقسامه في القرآن، وعصمة الأنبياء في ضوء القرآن، ومفهوم الحديث والسُّنة وما إذا كانت السنة كلها وحيًا وتشريعًا…وغيرها من المسائل.
وَغَنيٌّ عن البيان، أنَّ الظهور التنظيري المتأخِّر لأية قضية فكرية لا يدل بالضرورة على عدم وجود جذورها ومكوناتها الأصلية. فقد تكون بعض أصولها وأسسها موجودة في النصوص، ولكن اكتفى السالفون بالوقوف عند مبادئها العامة حسب حاجاتهم النظرية والعملية، وبما يتسق مع طبائع التطور الفكري والثقافي في زمانهم. فإنَّ الجيل الأول لم يتعرض لتحديات فكرية وعقلية وكلامية تصدم عقله وتعصف ذهنه وتدفعه للتأمل والتفكير فيها بطرق مبتكرة، كالتي تعرضت لها الأجيال التي جاءت بعده. لهذا؛ فمن الطبيعي أن يزداد تبلور المفاهيم وتكامل الرؤى مع حركة التطور عبر الزمن. وإذا كان بعض السالفين لم يلتفتوا في قضية التوحيد إلى التمييز المعرفي بين الوحدة الأحدية الحقة لله تعالى والوحدة العددية، أو لم ينضج لديهم مفهوم الإعجاز القرآني، أو لم تتبلور لديهم فكرة عصمة الأنبياء وعصمة خاتم الأنبياء، أو مسائل ما بعد الموت والمعاد والحشر الجسماني، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ تلكم المفاهيم الفكرية لا أصل لها ولا مستند، ومن ثم يلزم حذفها وإخراجها من أدبيات الفكر الديني؛ لمجرد أنها ظهرت، أو نضجت، في مراحل فكرية لاحقة من تاريخ المسلمين.
وإلَّا فبناءً عليه، يلزم حذف جُملة من القضايا الفكرية الحديثة التي تم تأصيلها في ضوء المرجعية الدينية الإسلامية؛ من قبيل: حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والحرية الفكرية، و مسألة المواطنة، واحترام التنوع الإنساني، والتعدديات الدينية والفكرية ، والنظريات السياسية عند المسلمين، وعلاقة الشورى بالديمقراطية والمذهب الاقتصادي، وفقه البنوك والمصارف، ومعاملات التأمين والأوراق المالية…وغيرها من القضايا الفكرية والفقهية التي طرحت في العصر الحديث!
وَبِهَذا؛ فلن يبقى أي معنى لاستمرار الممارسة الفكرية، وتواصل الاجتهاد الفقهي، وتراكم المعارف العلمية.
وَتَجْدُر الإشارة إلى أنَّ هذه القاعدة لا تختص بالاجتهاد الفقهي وحده، بل تشمل التفكير الاعتقادي أيضًا. ولا أدلَّ على ذلك من الواقع التاريخي الذي شهد -ولا يزال- تعدد المدارس العقدية كأهل الحديث والمعتزلة والأشعرية والماتريدية والسلفية والإباضية والشيعية. ويؤيده -كذلك- ظهور مناهج متنوعة في البحث العقدي، من حديثية وكلامية وعقلية وكشفية، إضافة لوجود اختلافات وتباينات في بعض التفاصيل ضمن الاتجاه الفكري الواحد.
وَمِن نَاحيةٍ أُخرى، إنَّ التيارات الفكرية والفقهية للمسلمين لم تُعن كثيرا -في بناء منظوماتها الفكرية والفقهية- بمسار التطوُّر التاريخي للمعارف الفكرية والفقهية؛ فلم يكن يشكل مصدرا أساسا لديها في إقامة بناها الفكرية. وكانت المدارس والمذاهب -ولا تزال- تعتمد على ما يعرف بالأدلة العقلية والنقلية وفق المعايير المقررة لديها. ومن ثم، فإن تولد بعض المفاهيم في أزمنة متأخرة نسبيا لا يوهن -في نظرها- أهميتها الفكرية، مادامت مُؤسَّسة على أدلة رصينة. ويبقَى معيار التعامل المنطقي معها هو: النظر في مدى سلامة أدلتها، ومحاكمة طرائق الاستدلال عليها، وفحص مدى دقتها العلمية.
إنَّ المُمَارسة الفكريَّة والفنيَّة -في العادة- تسبق عمليات التنظير والتقعيد والتقنين التي تأتي في مراحل تالية، بعد أن تكون الممارسة الفعلية قد قطعت شوطا وتطوَّرت ونضجتْ طرائقها في كثيرٍ من الحقول العلمية والمعرفية. فإنَّ ظهور التنظير العلمي والتقنين الفني المتأخر لعلوم العربية وآدابها (من: نحو، وبلاغة، وصرف، وأوزان، وتفعيلات، وبحور)، لا يدل على انعدام القواعد والضوابط بالكامل في العصر الجاهلي كما يشهد عليه الشعر والنثر العربيان في تلك الفترة، بل لقد شكَّل الشعر والنثر الجاهليان مرجعية احتكم إليها العلماء والأدباء والنقاد في مرحلة التدوين والتنظير والتقعيد والنقد الأدبي. وهذا ينطبق على جُملة من القضايا والعناوين الفكرية الدينية -على تفاوت بينها- التي استجدت في المراحل التاريخية التالية لصدر الإسلام. فالمسلمون الأوائل كانوا يزاولون اجتهاد الرأي والمصلحة، ويقيسون الأشباه بالنظائر، بَيْد أنَّ قانون الاجتهاد المتمثل في أصول الفقه وضع بعد تلك المرحلة التاريخية.
3
إنَّ الوَضعَ الاجتماعيَّ والحضاريَّ كان بطبيعته يُحتِّم على المسلمين الأوائل أن لا يستغرقوا في التأملات التجريدية، ويقفوا عند كثير من الظواهر، ويمرروها كما تلقوها. ولا نغفل حقيقة أنَّ كثيرا من المسلمين الأوائل الذين عاصروا النبي (ص) والأئمة الأوائل من أهل البيت، لم يكونوا مُلازمين لهم في مُختلف الظروف والأحوال اليومية؛ لأنهم كانوا مشغولين بإنجاز شؤونهم الحياتية الخاصة، إلى جانب انشغالهم في سوح القتال في بعض الفترات. كما أنَّ العديد منهم كانوا يأتون إليهم من أماكن متفرقة، ويلتقون بهم في بعض المناسبات والمواسم. وهذا الوضع كان يفرض أن يستمع بعضهم حديثا أو يتابع موقفا أو يشهد حكما لم يشهده آخرون. وقد يتسنى لبعضهم أن يتابع جزءًا من المشهد ويغيب عن الجزء الآخر. فقد يغيب بعضهم عن مجلس النبي (ص) في بعض الأوقات ويحضره غيره، ثم يغيب الذي حضر أمس، ويحضر الذي غاب، فيدرك كل واحد منهم ما حضر ويفوته ما غاب عنه. ومن الشواهد على ذلك: أن أبا موسى الأشعري استأذن على الخليفة عمر، فوجده مشغولا فرجع، فدُعي له فسأله: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا، قال فأتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك، فشهد معه أبو سعيد الخدري، فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي (ص)، ألهاني الصفق بالأسواق. وسئل أبو هريرة عن كثرة ما يرويه من الحديث دون المهاجرين والأنصار، فأجاب: إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضيهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وورد أن الإمام علي سُئل عن أسباب اختلاف الرواية عن النبي (ص)، فأشار إلى أصناف الرواة عن النبي (ص) ومنشأ الاختلاف بينهم، ومما قال: ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه، ووهم فيه، ولم يتعمَّد كذبا فهو في يده، يقول به ويعمل به ويرويه، فيقول: أنا سمعته من رسول الله (ص)… ورجل سمع من رسول الله (ص) شيئا أَمَر به ثمَّ نَهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ. وعلى الرغم من وجود المشاورات والمراجعات المحدودة بينهم في بعض الحوادث، لم تكن هناك منتديات فقهية أو حديثية يجتمعون فيها ويتداولون فيما بينهم ويتناقلون ما استمعوه وتلقوه وحفظوه من الآثار والأخبار والوقائع. ولم تكن كتابة العلم الديني متقبلة أو شائعة آنذاك، وكانت وسيلة التناقل الشفهي المعتمدة على الحفظ والذاكرة الشخصية هي الغالبة. كما أن وسائل المواصلات والاتصال كانت بدائية. وبهذا، فقد ظلَّ العديد من التوجيهات النبوية والإمامية مُتناثرة وموزَّعة بين الرواة؛ الأمر الذي كان ينعكس بشكل طبيعي على المفاهيم التي تستمد منها والرؤى التي تستنبط منها.
أمَّا بَعْد عَصْر التدوين وانتشار الكتابة وشيوع العلم الديني، أصبحت جملة وافرة من الأخبار والأحاديث والمواقف والسير -صحيحها وسقيمها- مدوَّنة ومجموعة ومبوَّبة في صحف ومدونات معروفة، وصارت بمجموعها في متناول أيدي المتكلمين والفقهاء والمفكرين والمفسرين، الذين انكبوا عليها يدرسونها ويبحثون فيها، ويستنتجون القواعد، ويصيغون النظريات. وعلى أثر ذلك، توسَّعت المعارف الدينية كثيرا، وتبلورت كثير من المفاهيم والأفكار، ونضجت الاجتهادات الفكرية في مختلف المجالات. كما أنَّ الانفتاح الفكري على الأديان والفلسفات والحضارات والثقافات الوافدة، وازدهار مجالس الجدل والمناظرة بين النظار والمتكلمين والفقهاء والمحدثين من مختلف الاتجاهات، أسهم في تنمية القدرات العقلية، وتعميق المهارات التحليلية المنطقية. وقد كان لذلك تأثير كبير في الانتقال الفكري من طور التعامل الحرفي البسيط مع المفردات الإيمانية، إلى طور التأمل والتحليل والنظر العقلي.
إنَّ مَجْمُوع العَوَامل الفكرية والثقافية والحضارية أسهم في حركة تنامي البحوث الكلامية والفقهية، وفي تشكل بعض المفاهيم والمعاني الاصطلاحية بعد القرن الهجري الأول. إنَّ طبيعة المناخ الفكري السائد، والبيئة الثقافية المعاشة، والشواغل الفكرية التي تسود فيها، تؤثر كثيرا في توجيه اهتمامات الباحثين والمفكرين، إضافة إلى أنَّ ذلك يؤثر في مستوى وضوح أو غموض المفاهيم الفكرية؛ بحيث قد يحولها -من جهة الوضوح- من النظريات إلى البديهيات أو العكس. وعلى سبيل المثال، فإنَّ قضية الإيمان بخالق الكون تعد في مجتمعات المؤمنين البسيطة قضية فطرية واضحة؛ بحيث قد لا يطلب أحد إقامة البرهان عليها. وهذا قد يقربها -من جهة الوضوح- إلى القضايا البدهية التي لا تحتاج إلى سوق أدلة لإثباتها. غير أنها في بيئة أخرى، تسود فيها الأدبيات التشكيكية، وتنتشر فيها التساؤلات الإشكالية والجدالات العقلية، والكتابات الفلسفية، فإنها قد تتحول إلى قضية نظرية تستدعي البحث والاستدلال، وبذل مجهود فكري كبير لإقامة البراهين عليها. وقد يختلف المفكرون والباحثون في تشخيص الضروري والنظري؛ بحسب المناخات الفكرية، وتغير الزمان والمكان، وتفاوت الوعي والفهم، ودرجة الوضوح عندهم. وقد تنقلب القضايا النظرية إلى ضرورية، والضرورية إلى نظرية؛ لبعض العوامل المذكورة.
إنَّ البَحْثَ فِي تاريخ تطور الفكر الديني للمسلمين -على حداثته- يكشف العوامل والمؤثرات الداخلية والخارجية التي أسهمت -بشكل مباشر أو غير مباشر- في تنميته، وتعميقه، وتنويعه. ويساعد على إجراء عمليات الحفر والتنقيب في مختلف طبقاته التي تشكلت وتراكمت عبر الزمن، وتفحص مستوى وضوحها وغموضها في ضوء الأصول الأصلية، وكذلك تبين مدى قربها أو بعدها عن المنابع الأصلية.
إنَّ البَاحثَ حِيْن يتتبَّع جذور بعض العناوين الفكرية المستجدة بعد القرن الأول، لا يعدم وجود جذورها وأصولها -ولو على نحو إشارات عامة- وردت في ثنايا النصوص الدينية وتضاعيف كلمات المسلمين الأوائل. ولكنها لم تبرز كعناوين مستقلة إلا بعد الاحتكاك بالثقافات والمناهج الأخرى، وبعد تشكل التيارات الفكرية، ونشوب السجال الكلامي حولها.
إنَّ التطوُّر الفكري في الشكل والمضمون هو أمرٌ طبيعيٌّ في مسيرة التفكير البشري، ومنه بطبيعة الحال تفكير المسلمين الديني.
—————————————————-
المراجع:
ابن حزم الأندلسي ، الإحكام في أصول الأحكام ، دار الآفاق الجديدة ، سنة 1983.
أبو جعفر الطبري ، تفسير جامع البيان ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، سنة 1992م ، بيروت .
أبو جعفر الطوسي ، عدة الأصول ، مؤسسة آل البيت ،سنة 1983م.
أبو جعفر الكليني ، الأصول من الكافي ، دار صعب ، بيروت ، الطبعة الرابعة سنة 1401 للهجرة .
أبو عبد الله البخاري ، صحيح البخاري ، بيت الأفكار الدولية ، الرياض ، سنة 1998م .
مسلم بن الحجاج النيسابوري ، صحيح مسلم ، بيت الأفكار الدولية ، الرياض ، سنة 1998م .
7,117 total views, 11 views today
Hits: 940