تطوُّر التفكِير النقدِي وفلسَفة الطبيعَة عِند عُلماء اليُونان
د. حيدر بن أحمد اللواتي
أستاذ مشارك بكلية العلوم جامعة السلطان قابوس
يُعدُّ العالِم اليونانيُّ سُقراط أستاذَ التفكير النقديِّ في تاريخ البشرية؛ فلقد كان مُحور اهتمامِه هو تحدِّي الأفكار المطروحة، والمسلَّمات الفكرية، والعادات الاجتماعيَّة؛ وذلك من خِلال طَرْح أسئلةٍ نقديةٍ مهمَّة حولها، وهذا النوع من الأسئلة لا يتوجَّه إليها الانسان في العادة؛ نظرا لأنَّه نشأ في بيئةٍ تُؤمن بهذه الأفكار، وتُمَارس عادات اجتماعية مُعيَّنة، فما كَان من هذا العالم الفذ إلا أنْ قَامَ بطرحِ أسئلة جريئةٍ على هذه الأفكار الرَّائجة والعادات الاجتماعية المُسلَّم بها. ومن خلال عجز الناس عن الإجابة عن أسئلِته، يتبيَّن لهم ضَعْف الأفكار التي يعتنقُونها، والعادات الاجتماعية التي تَربُّوا عليها، ومن هُنا فإنَّ لهذا العالم اليوناني دَورًا مهمًّا ومفصليًّا في تاريخ العلوم؛ فلقد أثار الفُضول في الذِّهن البشري، وتحدى الأفكار المطروحة آنذاك، بأسئلتِه التي كَان يطرحُها على تلامِذته ومُريدِيه؛ بُغية إثارةِ التفكير لدَيهم للوُصول إلى حَقائق علميَّة جديدة، وتُعرف هذه الطريقة اليوم بطريقة سقراط.
وفي العَادة، لا يولد التفكير النقدي بحدِّ ذاته علمًا أو معرفة جديدة، لكنَّه يضرب في المُسلمات الفكرية لدى المجتمعات؛ مما يُولِّد اضطرابًا وقلقًا لدى الناس؛ لذا فإنَّه يُواجه في كثيرٍ من الأحيان بعُنف شديد من قِبل الفئات المحافظة، وهذا ما حَدَث مع سُقراط؛ إذ اتهم بأنَّه يقُوم بإفساد الشباب، وتدمير عقولهم، وحكم عليه بأن يشرب من شراب مسمُوم كان يُمكن له أنْ لا يتناوله؛ بشرط أن يتراجع عن إثاراته، لكنَّ سقراط أبَى ذلك، ورفض وقال جُملةً تُنسب إليه، وتعني: “لا قِيمة لحياة دون سؤال معرفي” (1).
إنَّ وُجُود هذا التفكير الناقد من أهم ركائز النهضات العلمية، وهي عَادة ما تَسبق الكثير من الثورات العلمية؛ لهذا فمِن المُهم جدًّا تشجيع النشء على التفكير النقدي وتطويره لديهم؛ وذلك من خِلال بثِّه في العملية التعليمية بمختلف مراحلها.
لقد غَدَا هذا النوع من التفكير علمًا قائمًا بذاتِه، يُدرَّس في عدد من الجامعات كمُقرَّر من مُقررات العلوم الاجتماعيَّة، ولكن ونظرا للتركيز الشديد على رَبط التخصُّصات بسوق العمل في مُجتمعاتنا العربية، فلقد نَتَج عن هذا الربط ضَعْفٌ عام في تدريس العلوم الاجتماعية؛ ومنها: العلوم المرتبطة بالتفكير النقدي.
لم يُخلِّف سقراط كُتبًا تشرح فكرَه وآراءه، ولكن نقلها إلينا تلميذه أفلاطون الذي تأثر بشكل كبير بأستاذه، وتناولت كُتبه موضوعَات العدل والجمال والمساواة، كما تضمَّنت نقاشات في عِلم الجمال، والسياسة، والفلسفة، واللاهوت، وعلم الكونيَّات، وعلم المعرفيَّات، وفلسفة اللغة.
لكنَّ التأثير الأكبر على العلوم الطبيعية كان لأرسطو تلميذ أفلاطون؛ إذ يعتبره الكثير أنَّه الأكثر تأثيرا من بَيْن جميع علماء اليونان وفلاسفتهم، حتى إنه لُقِّب بـ”أبو العلوم”، وكان أرسطو يُطلِق مُصطلح “فلسفة الطبيعة” على علم دراسة الظواهر الطبيعية في العالم، وهو ما يُعرف بالعلوم الطبيعية في عَصْرنا الحالي.
أسهم أرسطو في تكوين نظرة عامة حول الكَوْن والأجرام السماوية، ولقد كانتْ هذه النظرة مبنيَّة على مُتابعة الظواهر الطبيعية؛ فلقد اعتبر أرسطو أنَّ الأرض ثابتة، وأنها مركز هذا العالم، وجميع الكواكب الأخرى تدُور حول الأرض، وهو أمر يبدو معقولًا لمن يعتمِد على الحواس المُجرَّدة في مُتابعة حركة الأقمار والكواكب، وقد تبنَّت الكنيسة وجهة النظرهذه، وذلك باعتبار أنَّ الإنسان هو محور هذا الكون؛ لذا فمن الطبيعي أن الأرض التي يعيش عليها هذا الإنسان هي محور هذا الكون، كما أنَّه أسهم مُسَاهَمة فاعِلة في علم الأحياء، بل يُنسب الفضل إليه في تأسيس هذا العلم؛ فقد قام بتصنيف الكائنات الحية بناءً على مُلاحظة التشابه والاختلاف بينها، ويعدُّ التصنيف الذي اقترحه أرسطو الأول من نوعه، وأدى إلى تصنيف الكائنات الحية على أسس تجريبية ومشاهدات علمية واضحة، وإن لم تسلم من أخطاء عديدة (2).
لكنَّ نظرات أرسطو حول الكَوْن لم تَسْلَم من رُؤى وآراء ميتافيزيقية دَمَجَها مع علم الطبيعة؛ فقال بأن الجسم الكروي هو أكمل الأجسام، كما أنه يجعل من القمر فاصِلا لهذا الكون إلى مَرتبتيْن: عالم ما تحت القمر، وعالم ما فوق القمر؛ أي: عالمنا وعالَم النجوم والكواكب، واعتبر عالم ما تحت القمر عوالمَ سفلية تتغيَّر وتَفنى، بينما عدَّ عالم ما فوق القمر عوالم علوية؛ حيث الكمال والثبات، وتحدَّث عن مفهوم الحركة، واعتبر أنَّ الحركة الدائرية هي أكمل الحركات؛ لذا فإنَّ العالم العلوي -بكواكبه ونجومه- يسير بحركة دائرية، وهكذا نجد أن أرسطو الفيلسوف كان طاغيًا على حديثه بشكل أثَّر على أرسطو الفيزيائي بنظرته للطبيعة، ولربما نفهم من هذه الآراء، وهذا الجمع بين المفهومين الفيزيائي والفلسفي، سبب تسميته لهذه العلوم بـ”فلسفة الطبيعة”.
وكما أشرنا سابقا، فإنَّ واحدة من أهم الأمور التي لم ينتبِه لها عُلماء الحضارة اليونانية هي مسألة الفَصْل بين المنهج العلمي القائم على التجريب، والمنهج الفلسفي، ولربما يكُون الأمر جليًّا في نظرات أرسطو، وكيف أنه خَلَط بَيْن المنهجيْن في دراسة الظواهر الطبيعية.
نَقَل العرب وتَرجمُوا كُتب أرسطو وعلماء اليونان في عَهْد الدولة العبَّاسية، وكانتْ لحركة الترجمة هذه أكبر الأثر في رُقي الحضارة الإسلامية وتطوُّرها، بل وتأثيرها الكبير على التطور العلمي في تاريخ البشرية؛ فلقد تأثَّر العرب والمسلمون تأثرًا كبيرًا بمُختلف العلوم التي تُرجِمت إلى العربية من اليونانية، بدءًا بالفلسفة والمنطق، وانتهاء بالعلوم الطبيعية، وكان لأرسطو وفكره الأثر الأكبر والأبرز في الفلسفة والمنطق، حتى عدَّت الحضارة الإسلامية وريثة الفلسفة الأرسطية، وكذلك تأثَّر العرب والمسلمون بـ”فلسفة الطبيعة” التي طرحها أرسطو؛ لدرجة جَعَلت البعضُ يُشكِّك في دور الحضارة الإسلامية في تطور العلوم الطبيعية، وادَّعوا أن الحضارة الإسلامية لم تكُن سوى جِسر لنقل العلوم؛ فلم تكن للمسلمين والعرب إنجازات علمية كبيرة، بل غاية الإنجازات تكَاد تقتصرُ على تطوير العلوم، بل وحتى هذا النوع من التطوُّر يُعدُّ تطورًا طبيعيًّا لا إبداعَ فيه (3). ومُقَابِل هذه المقولة، أنكرَ آخرون هذه الفِكرة، وانتقدوها، واعتبروا أنَّ الحضارة الإسلامية أسهمت مُسَاهَمة فاعِلة في تطوير العلوم؛ فهل حقًّا لم تكُن الحضارة الإسلامية سوى جِسر لنقلِ العلوم من الحضارة اليونانية إلى الغربية، أم أنَّ الحضارة الإسلامية أسهمتْ مُسَاهمة فاعِلة في تطوير العلوم وتطورها، ولها فضلٌ كبيرٌ على البشرية جَمْعاء… وللحديث بقيَّة في مَقالات أخرى.
5,877 total views, 2 views today
Hits: 560