وقع خمار الإيمان
روان الكلبانية
في غرفة المعيشة حملتْ مارية بحذر قدر حساء الخضار، بصعوبة حركت جسدها بين الأريكة الرطبة والطاولة المستديرة التي أخذت نصف مساحة الغرفة. انزلت القدر على الطاولة بحذر أشد، غاص جسدها الممتلئ في الأريكة، مدتْ قدماها المتورمتين ومالتْ برأسها للخلف مستنده على الأريكة وهي تنظر عاجزة لحبيبات المطر التي استطاعت ببراعة تسلل السقف والولوج لبيتها الضئيل. فاحت في الغرفة رائحة العفن؛ لو أن زائراً قدم وقتها لشعر بالغثيان لكن مارية ألفت تلك الرائحة لدرجة أن الهواء النقي بات هو الغريب بالنسبة لها. داعب بخار الحساء المتصاعد خديها المستديرين، بدء لها لمسة حنونة في وحشة الشتاء هذه، فاندلقت كومة ذكريات وانتشر الحنين في جسدها كسم أفعى. مارية تحترق، الشوق مؤلم، الوعود الموءودة مؤلمة، الوجوه الغارقة في غياهب الماضي مؤلمة، أحلام صبية العشرين مؤلمة، كل الأشياء مؤلمة!
على الحائط المطلي بلون السماء صباح يوم صيفي، عُلقت صورته، مبروزه بإطار أنيق يليق ببطل. نظرتْ إليه، الشهيد أحمد، حدقت ملياً في عيناه الغائرتان اللتان كانتا تبدوان على الدوام كلؤلؤتين في حجر محارتين. بحاجبين كثيفين منخفضين كان أحمد يبدو حزيناً على الدوام، هيئته هذه التي بقيت توجع مارية عشرون سنة. عضت الشق السفلي لشفتها المكتنزة، أحمد! العاشق الهارب للجهاد، ذهب أحمد من أجل الوطن، ترك الوطن من أجل الوطن! عشرون سنة ومارية تفكر، ما الذي كان يدور في رأس أحمد عندما حمل السلاح وفر تاركا إياها ووعودهم الدافئة على مرفئ مجهول!
إنها تلومه. بملعقة خشبية قلبت الحساء حركات دائرية في طبق خزفي. هي أيضا ليست معفية مما آلت إليه، لو إنها كانت أذكى قليلا وأكثر أنانية لنجت بجلدها من هذه الثياب الرثة والوحدة القاتلة. ملأت فمها بالحساء الذي برد، مضغت مكعبات البطاطا النيئة قليلاً ببطىء. عرفت أن أحمد لن يعود. قبل عشرين سنة، أيقنت أنه لن يعود. ما الذي انتظرته طوال تلك السنون! لو أنها كفرتْ بالحب، بالوطن، بأحمد. لكانت تعيش الآن حياة طيبة في بلد بعيد.
تحسست على عنقها سلسال القلادة التي تخبئها تحت طبقات ثيابها، كانت تشعر ببرودة الذهب تلسع بشرتها البيضاء المائلة إلى الحُمرة. تنهدت: آاه يا أحمد! هربت من شفتيها ابتسامة ساخرة، الأجل هذا انتظرت؟
1,803 total views, 2 views today
Hits: 85